رمال مصر المتحركة ما زالت كل يوم تدفع بمفاجآت وأحداث جديدة، وتنذر بمواجهات وشيكة، فنذر الثورة أخذت بوادرها تلوح في الأفق، بصورة لا تخطئها عين المواطن العادي، فضلاً عن المتابعين والمراقبين للشأن المصري، فقد كان تصريح الرئيس المصري محمد مرسي بالسودان يوم الجمعة الماضي، والذي هدَّد فيه بثورة ثانية تقتلع جذور الفساد والمفسدين بمثابة الإعلان الرسمي عن الحل الأمثل للواقع المتوتر والملتهب في مصر، بعد أن وصلت المواجهات بين أركان ومفاصل الدولة القديمة المباركية، وبين النظام الجديد المنتخب لذروة الصدام، بحيث صرَّح الرئيس المنتخب بمثل هذا التصريح الذي عادة لا يصدر إلا من المعارضة على الأنظمة القائمة، ولم يعهد بثورة نظام على المعارضة، إلا من الرئيس الراحل السادات في مايو 71، عندما قام بثورة تصحيح على رموز نظام جمال عبد الناصر.
الحديث عن ثورة ثانية في مصر بدأ مبكرًا، وبعد فترة وجيزة من حكم المجلس العسكري الذي غلب على أدائه السياسي التخبط وضعف الرؤية والعشوائية، فبعد تخبط المجلس في قراراته، واستجاباته المتكررة للضغوط الداخلية والخارجية، عندها أدرك العقلاء أن الثورة قد انحرفت عن مسارها أو تم سرقتها، وذلك يوم أن وافق الثوار على فكرة تولِّي العسكر إدارة المرحلة الانتقالية، وندم الثوار على استماعهم للأصوات المنادية بعدم ترك الميدان؛ لذلك كان من الطبيعي أن تشهد البلاد خلال مدة حكم العسكر (عام ونصف) احتجاجات عنيفة، كانت بمثابة موجات ارتدادية للثورة الأولى، ولكنها لم ترق لمستوى الثورة الكاملة، وقد أجرت فضائية "دوي تشه فيليه" الألمانية عدة مناظرات بين بعض الساسة والمفكرين عن موضوع حساس وهو مدى حاجة مصر إلى ثورة ثانية، وذلك في أعقاب فوز الرئيس مرسي بمنصب الرئاسة، وذلك باللغتين العربية والإنجليزية، وعلى قناتي "الحياة" المصرية، و"هنبعل" التونسيةـ وكلاهما محسوب على النظام القديم في مصر وتونس، وتليفزيون وخدمة الإذاعة العامة (pbs) في أمريكا، بالإضافة إلى تليفزيونات عربية شريكة، وفي ختام مناقشات حادة ومداخلات ساخنة بين كلمات المتحاورين، صوَّت 63.4% من الحضور لصالح فكرة الثورة الثانية، فيما عارضها 36.6%.
الأحداث في مصر تتسارع بصورة كبيرة، تجعل المتابعين يلهثون وراءها من أجل تفسيرها واستقراء مراميها، فمنذ أن تمكَّن الإخوان من تحقيق ضربتهم المؤثرة بعزل النائب العام والاستفتاء على الدستور، وإقراره شعبيًّا وقانونيًّا، والبلاد تشهد حملة ضارية قاسية على كل المستويات، من أركان الدولة القديمة؛ القضاء والإعلام والمخابرات، بالتعاون مع التيارات العلمانية والليبرالية، في إطار متحرك بين هدف أعلى وهو الإطاحة بنظام مرسي والإخوان المسلمين والتيار الإسلامي كله من المشهد السياسي، وذلك بدفع الجيش للانقلاب على الشرعية والرئيس المنتخب، وهدف أدنى وهو تعويق الرئيس مرسي من تحقيق إنجازات ملموسة، وذلك بتفجير أكبر قدر ممكن من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو ما نجحت فيه القوى المعادية للثورة والنظام الجديد حتى الآن.
أحداث مصر في الثلاثة شهور الأخيرة انتقلت فيها المواجهات إلى ثلاثة مستويات من التصعيد، في تخطيط مدروس من أجل الوصول إلى نقطة الكسر التي لا يصلح معها إلا الصدام المباشر، كحل وحيد للخروج من نفق الأوضاع القاتمة، فبعد التصعيد السياسي الذي صاحبته أحداث عنف غير مسبوقة في مصر من اعتداء على منشآت عامة ومقرات حزبية وأفراد أغلبهم منتمين للتيار الإسلامي، انتقل التصعيد إلى المستوى الاقتصادي بأزمات خانقة شديدة في الوقود والمحروقات وأسعار الدولار، وهي الأمور التي تؤدي دائمًا لارتفاع جنوني في الأسعار، وموجات متتالية من الغلاء، أضف إلى ذلك حملات التضييق الشديدة التي تقودها دول الخليج باستثناء قطر، وتعثر مفاوضات صندوق النقد الدولي، وتردد الاتحاد الأوروبي في إرسال المساعدات، وفوضى الشارع الذي لم يعرف الهدوء أو التوقف، وأخيرًا التصعيد الطائفي التي حدث بالخصوص والكاتدرائية، واللعب بالورقة القبطية، وهي الورقة المفضلة لأعداء مصر منذ سنوات طويلة، ولأول مرة يدخل ملف الشيعة على مستوى التصعيد الطائفي، بعد بداية تدفق السياح الإيرانيين الشيعة على مصر، وهو ما أغضب بشدة التيارات السلفية الرافضة لهذا التطبيع الاقتصادي والسياحي مع إيران، وواكبت احتجاجاتهم على هذا التقارب أعمال عنف ضد القائم بالأعمال الإيرانية في مصر.
ولكن ثمة تطور كبير حدث في الشأن المصري في الأسبوعين الأخيرين، جعل مسألة الثورة قاب قوسين أو أدنى، فأحداث خطيرة وقعت بصورة سريعة، تجعل السكوت عليها ضربًا من الغفلة المميتة، بدأت بزيارة عاجلة من البرادعي إلى دبي تحت غطاء تكريم الفائزين في نوبل، وهناك التقى مع المرشح الخاسر، والمتهم الفار "أحمد شفيق" بصورة سرية، حيث تم التنسيق والترتيب والتمويل للمرحلة القادمة، وهو التمويل الذي أحدث شقاقًا كبيرًا في حزب البرادعي، ثم تلا ذلك الاعتداء العنيف الوحشي على مقر الإخوان بالمقطم، وما تلا ذلك من إعلان وسائل الإعلام الحرب المكشوفة والشاملة على نظام مرسي، بهجوم في غاية الضراوة، بإطلاق سلسلة متواصلة يومية من الأكاذيب والشائعات ضد مرسي وجماعته، ثم الحكم المريب والمعيب الذي صدر بخصوص النائب العام، والذي أعاد المواجهات للمربع رقم واحد في مرحلة ما قبل الإعلان الدستوري، ثم التجاهل المهين لقرار النائب ضبط وإحضار 169 شخصية اتهمت في أحداث عنف المقطم، وسخرية المطلوبين من النائب العام وسبهم له على الهواء، في تقويض واضح لسلطة النائب والقانون والدولة، ثم موقعة باسم يوسف التي كشفت عن الأبعاد الخارجية في صناعة هذا الأراجوز العالمي، ثم رفض الأنتربول الدولي إصدار مذكرة توقيف حمراء بخصوص المتهم الهارب "أحمد شفيق" بحجة تسييس القضية، على الرغم من صدور أحكام نافذة ضده في قضية أرض الطيارين، ثم إحراق محكمة جنوب القاهرة عمدًا لتضيع في الحادثة عشرات الملفات الهامة والأحراز الحساسة في قضايا قتل الثوار وغيرها، على الرغم من تنبيه العميل الأمريكي الخائن "عمر عفيفي" قبل وقوع الحادث بأنه سيقع في اليوم والساعة التي وقع فيها الحادث فعلاً، ثم قيام محكمة مصرية بتبرئة العديد من رجال مبارك والإفراج عنهم، وتبرئة أحمد شفيق وإبراهيم مناع في قضية إهدار المال العام في المطار الجديد، ثم إعلان شفيق عن نيته العودة إلى مصر، والانضمام إلى جبهة الإنقاذ، وأنه سيجلب الخير لمصر عبر المليارات التي بحوزته، ورجال الأعمال والمستثمرين الخليجيين والأوروبيين القادمين معه، شريطة أن يتولى حكم مصر، وأخيرًا أحداث الفتنة الطائفية المريرة، ومجاهرة الأقباط لأول مرة بما يملكون من أسلحة داخل الأديرة والكنائس، وإعلانهم نية القتال دفعًا عن دولتهم؛ لأنهم أصحاب الأرض الأصليون.
كل هذه الأحداث ما كان لها أن تقع لو تخلَّى الإخوان قليلاً عن حذرهم الأسطوري، وتلكؤهم وتباطؤهم، في اتخاذ قرارات جريئة ومصيرية، الحذر الذي جعلهم لا يستغلون حادثة الإطاحة بطنطاوي وعنان، من أجل اتخاذ قرارات مصيرية، تحسم مادة الفساد، حذرهم الذي جعل مجلس الشعب يمكث خمسة شهور، دون إعداد قانون السلطة القضائية لمواجهة طغيان القضاة الذين أصبحوا رأس حربة ضد الثورة والنظام الجديد، ودون إصدار قانون هيكلة وإصلاح الداخلية، ودون إصدار ميثاق شرف ينظم الأداء الإعلامي، فتعرضت البلاد لكل هذا البلاء.
الرئيس مرسي إذا لم يسارع باتخاذ قرارات استثنائية تناسب الأوضاع الاستثنائية التي تمر بها البلاد بإصدار قوانين عاجلة تقضيها الظروف والوقائع، فلن يبقى في الحكم طويلاً، ولا أعتقد أن الشعب سيصبر على أزماته أكثر من ذلك، ولا أعتقد أن الجيش سيصبر على الإغراءات والأصوات المنادية بنزوله أكثر من ذلك، حتى لو بدا للعيان غير ذلك، على الرئيس مرسي أن يثور سريعًا على القضاء والإعلام؛ لأنه لو ثار على أحدهما دون الآخر، فسيتكفل الآخر بإحباط ما سيحيق بالأول، فالإعلام والقضاء يا مرسي، وإلا فقل على دولتك السلام.