من على جبل الرماة في طيبة، وقفت متأملاً سابحاً في خيال من مئات السنين إلى الوراء. ورمقت ببصري ذلك الجبل الداكن العظيم، شامخاً عزيزاً، وكأني به يتفاخر أمام الملأ من كل أصقاع الدنيا بوسام المصطفى صلى الله عليه وسلم « أُحُدٌ جبلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه ». وبين أُحُدِ الحبيب.. وجبل الرماة الجريح يرقد صفوة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا مثال الشجاعة والصبر والفداء. أحبتي.. في ذلك المكان.. وأمام تلك المشاهد المذهلة كانت هذه الخواطر.. لن أسرد لكم أحداث غزوة أُحُد، فالقصة معلومة والتاريخ دوّنها بكل دقّة وأمانة، وتبقى العبرة والعظة تحتاج إلى تذكير ومدارسة. تأمل يا رعاك الله قول الحق سبحانه { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } لقد نزلت هذه الآية الكريمة لكي تُشخّص الداء وتقّوم حال الجماعة المسلمة بعد مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزولهم لأخذ الغنائم، وترك الجبل للمشركين كي يقلبوا النتائج ويحوّلوا سير المعركة لصالحهم, وقد كان النصر حليف المسلمين؛ كيف لا وقد رأى بعض الصحابة خلاخيل نساء المشركين وهن يهربن من هول المعركة.. عندها قال ابن مسعود رضي الله عنه قولته المشهورة: ما كنت أظن أن أحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل قول الله عز وجل { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ }.. - إن المتأمل في هذه الآية يجد الصراحة والوضوح في تحديد الخطأ الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية بدون مجاملة أو تعميم { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }. - إنها الغنائم التي طالما حذر منها الحبيب صلى الله عليه وسلم, إنها الغنائم حينما تقفز على قائمة الأولويات والمهمات في حياة الدعاة والمصلحين، فكذلك تنقلب قائمة النتائج والانتصارات. - واليوم إذا أرادت الأمة الإسلامية وعلى رأسها الدعاة والمصلحون الانتصار والتمكين، فلا بُدّ من تحديد الخلل بصراحة ووضوح، ثم العمل الجاد على إصلاح والتغيير، لا المراوغة والتبرير. يقول عمر بن عبيد حسنة، مؤكداً ضرورة النقد الذاتي وضرورته للحركات الدينية: "إن التستّر على الأخطاء باسم المصلحة العامة, وحفظ الكيان والتوهّم بأن الحسبة في الدين تؤدي إلى البلبلة والتمزق، أمر خطير ومفسدة فظيعة تدفع الأمة ثمنها الدماء الغزيرة، وليس هذا فقط , بل تؤدي إلى ذهاب الريح وافتقاد الكيان أصلاً, فالأمة بدون هذه الحسبة وهذا التناصح تعيش لوناً يشبه إلى حد بعيد الورم الممرض (نقلاً عن كتاب الحركة الدينية وحوار من الداخل، ص6) إذاً فهذا هو جبل الرماة، الواعظ الحي، ينادي فيقول: يا أمة الإسلام.. إيّاكم والدنيا؛ فإنها أهلكت من كان قبلكم.. إن الواعظ الحي ينادي الحركات الإسلامية، التي ما زالت تهرول نحو مكتسبات وهمية، وغنائم هي من حق الأمة الإسلامية, تاركةً خلفها كل محاولات الإصلاح والتجديد تحت ستار المصلحة ومن منطلق الوصاية على الدين. إن الواعظ الحي يقول لهم { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ }. أيها الأخوة.. إن الغنائم في زماننا هذا ليس خيلاً أو إبلاً، ولا ذهباً أو فضة، ولا حتى الجواري الملاح.. إن صور الغنائم عندنا تأخذ أشكالاً وصوراً عديدة: 1- بعض الدعاة هداهم الله حوّل اللجان الخيرية إلى مؤسسات لجني الأموال من الناس تحت مسمى الدورات, التي لا حد لها ولا حصر والتي أصبحت تتكرر بأسماء وعناوين مختلفة، والمادة صورة مكررة، ولكنها وللأسف غير منقحة. 2- لقد أصبح نجوم المال في العالم الإسلامي هم محط أنظار الحركات الإسلامية, علّهم يظفرون منهم بغنيمة لخدمة أفكارهم الحزبية أو أهدافهم الضبابية. 3- ربما ترى يوماً من الأيام بعض الدعاة فوق جبل الرماة يشرح أحدهم لطلابه أحداث غزوة أحد، ويحذّرهم من مغبّة مخالفة أمر القائد, فيقتل هذه المسألة بحثاً وتفصيلاً وتأصيلاً, ثم لا يتطرق إلى موضوع الغنائم بسرعة تفوق سرعة الصوت. وقد يرتقي هذا الجبل الجريح دعاة من مناهج شتى { حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } ، لم يستفيدوا من هذا الواعظ الحي، وهم يرون ما يحل بأمة الإسلام, فتراهم يتنافسون على الغنائم... مركز إسلامي أو مسجد في موقع استراتيجي أو ربما جمعية خيرية ينتظرها الفقراء والمعوزين بفارغ الصبر. وداعية آخر بدأ مخلصاً في دعوته، ثم أبهرته الغنائم وهي تحيط به عن يمينه وشماله ومن فوقه ومن تحت أقدامه, فأصبحت إحدى عينيه على الدعوة وأخرى ترمق بشغف مقعداً في البرلمان, كل هذا يحدث في واقع مرير تضيع معه مبادئ وأصول، هي إفراز طبيعي لمن قدّم الغنيمة على مصلحة هذه الأمة العظيمة. يا دعاة الإسلام.. إننا بحاجة إلى شباب يعشقون التضحية والإيثار، وليس من صفاتهم الأنانية والاستئثار وبين صراع الغنائم والظفر بها.. يظهر في الجانب الآخر مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي ركل الدنيا بقدميه وقد دانت له, كيف لا، وهو فتى قريش المدلل, إنه يموت في أُحُد حيث لا يسعه الكفن! فما أهون الدنيا عندك يا ابن عمير رضي الله عنك، وقد أمسكتها ثم لفظتها كما تلفظ النواة. أيها الأحرار.. بقدر ما كان مصعب رضي الله عنه يحرر نيته ومنهجه من غنائم الدنيا التي تبرق في الطريق إلى الله، بقدر ما كان النور يسطع وينتشر في أرجاء الدنيا. "وإني أرجوا الله أن يخرج لنا جيلاً من أمثال مصعب بن عمير.. أفراد ولكن كل واحدٍ منهم يعدل أمة لوحده، كأنه وهو فرد من جلالته في عسكر حين تلقاه وفي حشم". أخيراً أختم بهذا الحديث، وأترك للقارئ الكريم حرية التفكير والاستنباط من جوامع الكلم لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم. روى البخاري في صحيحه عن عُقبةَ بنِ عامرٍ « أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرجَ يوماً فصلَّى على أهلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ على الميّتِ، ثمَّ انصرَفَ إلى المِنبر فقال: (إني فرَطٌ لكم، وأنا شهيدٌ عليكم، وإني واللهِ لأنظُرُ إلى حَوضِي الآنَ، وإني أُعِطيتُ مَفاتيحَ خَزَائنِ الأرضِ، أو مفاتيحَ الأرضِ. وإني واللهِ ما أخاف عليكم أنْ تُشرِكوا بَعدِي، ولكنْ أخافُ عليكم أنْ تنافَسوا فيها) »!! قال عقبة: فكان أخر نظرة نظرتها إلى رسول الله. أيها الناس.. جبل الرماة... إنه حقاً الواعظ الحي!