في كل عام يتكرر ذات السؤال: هل نتبع الحسابات الفلكية في تحديد بداية شهر الصيام أم نعتمد على رؤية الهلال؟. في حين أن الشريعة الإسلامية شريعة سمحة رفعت الحرج عن أتباعها، فلما فرضت الصوم في شهر قمري شرعت إثباته بوسيلة طبيعية سهلة ميسورة لجميع الأمة، لا غموض فيها ولا تعقيد رحمةً بها، إذ لم يكلفها الله العمـل بالحسابات الفلكية . والأمر ليس جمود على حرفية النص النبوي، أو عدم ثقةٍ بنتائج هذا العلم أو تنكر له فإنه لا يمكن أن يحدث أي تعارض بين العلم وأحكام التشريع الإسلامي مهما تقدمت الحضارة والكشوف العلمية. هذا؛ والخلاف القائم حول مسألة الأخذ بالحسابات الفلكية سببه لدى القائلين به من ثلاث فرضيات: الأولى: أن تلك العلوم الفلكية لم تكن ذائعة الصيت وبالتالي فقواعدها لم تكن قطعية الثبوت ومن ثم نتج عدم ثقة السلف بها وإنكارهم لها بعكس هذا الزمان. وهذا غير صحيح فقد ذكر ابن عبد البر أن ارتقاب منازل القمر:" علم كانت العرب تعرف منه قريبا من علم العجم" (التمهيد (7/155)). ولا شك أن كل طائفة في كل زمن تظن أنها بلغت دقة المنتهى في علمها ثم لا تلبس إلا قليلا فتكتشف ما كانت فيه من قصور؛ وسيتبين لك حقيقة هذا وما كانوا يعتقدون فيه من دقة علم الفلك في العصور المتقدمة من خلال كلام القرفي؛ فتأمله جيدا. الثانية: وبناء على الفرضية الأولي خالفوا أهل العلم المتقدمين لهم في تأويل قوله صلى عليه وسلم :" فإن غم عليكم فاقدروا له" ولم يقضوا بالمفسر في قوله صلى عليه وسلم: «فأكملوا العدة ثلاثين»[رواه البخاري] على المجمل وإنما تأوله على الحساب؛ وذلك المسلك فيه من الإخلال بقواعد الأصول ما فيه. الثالثة: اعتبروا أن العلة في ترك العمل بالحسابات الفلكية هي كون الأمة كانت أمية لقوله صلى عليه وسلم: «إنـا أمـة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهـر هكـذا وهكذا...» [رواه البخاري]. ومادامت أن تلك هي العلة فالحكم يجري مع علته وجودا وعدما فإذا انتفت صفة الأمية عن الأمة وجب الرجوع إلى الحساب بزوال علة منعه. ومن طالع ما ذكره الإمام القرافي في الفروق يعرف مدى تهافت الفرضية الأولى؛ فيقول رحمه الله تعالي في الفرق الثاني والمائة: "(بين قاعدة أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب)، وفيه قولان عندنا وعند الشافعية رحمهم الله تعالى والمشهور في المذهبين عدم اعتبار الحساب فإذا دل حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة لا يجب الصوم قال: سند من أصحابنا فلو كان الإمام يرى الحساب فأثبت الهلال به لم يتبع لإجماع السلف على خلافه. مع أن حساب الأهلة والكسوفات والخسوفات قطعي فإن الله تعالى أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبعة السيارة على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم. قال الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [سورة يس: 39]، وقال تعالى:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [سورة الرحمن: 5]، أي هما ذوا حساب فلا ينخرم ذلك أبدا، وكذلك الفصول الأربعة لا ينخرم حسابها، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع كما إذا رأينا شيخا نجزم بأنه لم يولد كذلك بل طفلا لأجل عادة الله تعالى بذلك وإلا فالعقل يجوز ولادته كذلك، والقطع الحاصل فيه إنما هو لأجل العادة، وإذا حصل القطع بالحساب ينبغي أن يعتمد عليه كأوقات الصلوات فإنه لا غاية بعد حصول القطع". فانظر كيف يقرر دليل المخالف، وانظر أيضا كيف يحكم بقطعية الحسابات الفلكية في زمنه وكيف ينظر إليها لا كما يدعيه أهل ذلك الزمان عنهم. ولنكمل مع الإمام فيقول والفرق ـ أي بين العمل بالحسابات في مواقيت الصلوات وعدم العمل بها في الأهلة ـ وهو المطلوب هاهنا وهو عمدة السلف والخلف أن الله تعالى نصب زوال الشمس سبب وجوب الظهر. وكذلك بقية الأوقات لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [سورة الإسراء: 78] أي لأجله، وكذلك قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [سورة الروم: 17-18]، قال المفسرون هذا خبر معناه الأمر بالصلوات الخمس في هذه الأوقات حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الصبح وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر والصلاة تسمى سبحة، ومنه سبحة الضحى أي صلاتها فالآية أمر بإيقاع هذه الصلوات في هذه الأوقات وغير ذلك من الكتاب والسنة الدال على أن نفس الوقت سبب فمن علم السبب بأي طريق كان لزمه حكمه، فلذلك اعتبر الحساب المفيد للقطع في أوقات الصلوات. وأما الأهلة فلم ينصب صاحب الشرع خروجها من الشعاع سببا للصوم بل رؤية الهلال خارجا من شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي فلا يثبت الحكم، ويدل على أن صاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سببا للصوم قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [رواه البخاري]، ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس، كما قال تعالى: COLOR="red"]{أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[/color] [سورة الإسراء: 78]، ثم قال: «فإن غم عليكم» [رواه البخاري]، أي خفيت عليكم رؤيته «فاقدروا له» [رواه البخاري]، في رواية: «فأكملوا العدة ثلاثين» [رواه البخاري]، فنصب رؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين، ولم يتعرض لخروج الهلال عن الشعاع. ثم يقول: "فلأجل هذا الفرق قال الفقهاء رحمهم الله تعالى: إن كان هذا الحساب غير منضبط فلا عبرة به، وإن كان منضبطا لكنه لم ينصبه صاحب الشرع سببا فلم يجب به صوم والحق من ترديد الفقهاء رحمهم الله هو القسم الثاني دون الأول". أقول: وما ذكره الفقهاء إنما هو من باب التقسيم، وأما كون أن الحساب أمر منضبط الدقة فهذا معلوم ولكنه ليس معصوما من الخلل والخطأ كما يصوره القائلين به كما سنبينه فيما بعد. الأمر الثاني: فإما الإجمال الذي في قوله صلى الله عليه وسلم «فاقدروا له» [رواه البخاري]، فهو سبب اختلافهم في معنى التقدير له هل معناه هو أن يصبح المرء صائما وهو مذهب ابن عمر، أم عده بالحساب، أم إكمال الشهر ثلاثين يوما وهو مذهب جمهور أهل العلم في جميع الأزمنة، وقد دلت عليه سائر الأحاديث ومنها حديث ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ مرفوعا قال : «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له» [رواه البخاري]، فقد رواه عن ابن عمر نافع، وعبد الله بن دينار، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن زيد. فأما نافع فرواه عنه أيوب وعبيد الله بن عمر بلفظ: «فاقدروا له ثلاثين يوما». ورواه عنه عبد العزيز بن أبي رواد: «فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» أخرجها عبد الرزاق (4/156)، وهذا مفسر. ورواه مالك عنه (أي عن نافع) بلفظ: «فاقدروا له» أخرجه البخاري (1906) ومسلم في الصيام (1080/3). وأما رواية عبد الله بن دينار فرواه عنه إسماعيل بن جعفر ، ومالك بلفظ: «فاقدروا له» مجملا؛ وللشافعي عن مالك بلفظ: «فأكملوا العدة ثلاثين» وكذا أخرجه البخاري في الصحيح عن القعنبي عن مالك. قال البيهقي: "إن كانت رواية الشافعي والقعنبي من هذين الوجهين محفوظة فيحتمل أن يكون مالك رواه على اللفظين جميعا والله اعلم".أهـ وأما سالم فرواه عنه ابن شهاب بلفظ:«فاقدروا له» لم يختلف عليه فيها [أخرجه البخاري ومسلم]. وأما محمد بن زيد فرواه عنه ابنه عاصم بلفظ: «فأكملوا ثلاثين» أخرجها ابن خزيمة (2/202). فإنما فذهب الجمهور إلى أن تأويله: «فأكملوا العدة ثلاثين»، بحمل المجمل على المفسر. قال ابن رشد: "وهي طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين، فإنهم ليس عندهم بين المجمل، والمفسر تعارض أصلا، فمذهب الجمهور في هذا لائح، والله أعلم".أهـ والمراد مما ذكرناه من تفصيل روايات حديث ابن عمر بيان أنها قاضية بالمعنى المراد من الحديث إذ أن جميع من ذكرها مفسرة بلفظة: «أكملوا ثلاثين» ثقات أثبات . فكون بعض الرواة الآخرين قَصُرَ بالرواية على اللفظ المجمل، أو أن نافعا أو ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يحدث به تارة مفسر وأخرى مجملا أو غير ذلك مما يعرض للرواية فهذا لا يطعن في الرواية المفسرة إذ لا تعارض كما هو مقرر. خاصة وأن بعض طرق رواية ابن عمر وردت بلفظ: «فاقدروا له ثلاثين يوما»، وإذ تقرر ذلك تبين أنه لا دليل يستمسك به من يقول بالحساب. ويقول ابن عبد البر في حق الحساب: "هو مذهب تركه العلماء قديما وحديثا للأحاديث الثابتة عن النبي عليه السلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين». ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه والله أعلم ولو صح ما وجب إتباعه عليه لشذوذه ولمخالفة الحجة له وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله: في الحديث: :«فاقدروا له» نحو ذلك والقول فيه واحد وقال ابن قتيبة في قوله: :«فاقدروا له» أي فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له وليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب" (التمهيد (7/156)). الأمر الثالث: قوله صلى عليه وسلم: «إنـا أمـة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهـر هكـذا وهكذا...» [رواه البخاري]، فهو ليس تعليل للحكم؛ وإنما هو إنشاء لحكم آخر، يقول القاضي عياض: "وصفه صلى الله عليه وسلم لهم بالأمية وأنهم لا يحسبون ولا يكتبون إذ كانوا لا يجهلون الثلاثين، ولا التسع والعشرين، ولم ينف عنهم معرفة مثل هذا الحساب، وإنما وصفهم بذلك طرحا للاعتداد بالمنازل وطرق الحساب".أهـ ويقول الصنعاني: "لو كان كلام الحاسب مدركا شرعيا للصوم والإفطار لما أهمله الشارع بل أشار إلى خلافه بقوله: «إنـا أمـة أمية، لا نكتب ولا نحسب»، ثم قال: «الشهـر هكـذا» الحديث؛ فأشار بيده إلى الثلاثين والتسع وعشرين" (حاشية الصنعاني على العدة(3/328)). هذا من جهة النظر الشرعي؛ وأما من جهة علم الفلك فيقول فؤاد محمد سعيد وهو فلكي سوري، وعضو الجمعية الفلكية البريطانية: "أن لحظة تمام غروب قرص الشمس (والتي يجب تعيينها بدقة لأجل مقابلتها مع لحظة ميلاد القمر لمعرفة أي منهما حصل قبل الآخر) لا يمكن تحديدها نظريا ـ أي بالحساب ـ إلا بخطأ في التقدير لا يقل عن بضع ثوان زمنية. ويذكر أنه: "لو أريد اعتماد الرصد لتحديد وقت تمام غروب قرص الشمس بدقة أكبر بدلاً من اعتماد المعادلة النظرية التقريبية لاستلزم الأمر توافر جملة من الشروط يكاد يستحيل تحققها، ويؤكد أن حساب وقت خروج القمر من المحاق (ميلاد القمر) في علم الفلك السماوي ليس مطلق الدقة كما يظن عامة الناس، بل هو تقريبي. فللقمر حركات معقدة للغاية. ويذكر أن النتيجة المعطاة لموضع القمر في مختلف الأوقات تكون بدقة 0.1 (+ -) دقيقة قوسية، وهذا يقابل دقة أو تفاوتا في حساب موضع القمر تساوي 11 (+ -) ثانية زمنية. وأن اللحظة الحقيقية لخروج القمر من المحاق تبقى مجهولة، وتحديدها بدقة أكبر هو أمر خارج عن إمكانات العلم في الوقت الحاضر" (نقلا عن بحث نشر بمجلة العربي الكويتي). ومع تداخل هذان الخطأين (لحظة غروب قرص الشمس، ولحظة خروج القمر من المحاق) ينتج عدم الدقة المطلقة والقداسة المحاطة بالحسابات الفلكية؛ وهكذا ترى أن ما هو علمي لا يتعارض مع الشرعي مطلقاً. وفي الختام نود أن نشير إلى بعض الأمور في عجالة: أولاها: القول بأن الرؤية ظنية حيث يمكن أن يدخل عليها الخطأ بصورة أو أخرى، نقول هذا ليس فيه أي نوع من الحرج فقد تعبدنا الله بالظنيات في كثير من الأمور كالشهادة وغيرها، ثم إن الدلالة التي يراد عن طريقها العمل بالحساب هي دلالة ظنية. ثانيها: فمن جهة وقوع الخطأ في الرؤية فقد رفع الشرع نفسه الحرج فيه فقال صلى الله عليه وسلم:«فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون» [أخرجه الترمذي(697) من حديث أبي هريرة وإسناده حسن]. وله شاهد من حديث عائشة رواه الترمذي(802)، ورجح الدارقطني وقفه. قال ابن عبد البر: "قد أجمعوا على أن الجماعة لو أخطأت الهلال في ذي الحجة فوقفت بعرفة في اليوم العاشر أن ذلك يجزئها فكذلك الفطر والأضحى والله أعلم".أهـ (التمهيد (7/159)). ثالثها: أنه لا مانع من امتحان المخبرين برؤية الهلال لمعرفة مدى صدقهم من عدمه؛ كأن يسأل الشاهد عن زمن ومكان رؤيته للهلال، ومدى ارتفاعه عن الأفق، وغير ذلك من الأسئلة التي تبين صحة ما رآه هل هو الهلال أنه توهمه.