لقد توفي البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان بعد رحلة طويلة مع المرض. أما الهالة الإعلامية التي أُقيمت على وفاته فهي جد مثيرة، وغير مسبوقة في تاريخ الرموز الدينية المسيحية. وفي الحقيقة لقد هالني هذا الاهتمام المنقطع النظير بوفاة هذا الرجل، وخاصة بكاء المسلمين عليه، وبالأخص معظم القنوات العربية التي اهتمت بموته بطريقة لا تصدق. فمن هو البابا يوحنا بولس الثاني؟ وما هي أهم إنجازاته؟ ولماذا هذا الاهتمام العالمي به؟ من هو يوحنا بولس الثاني؟ البابا يوحنا بولس الثاني، بولندي الجنسية واسمه الحقيقي "كارول جوزيف فوتيلا" ولد في 18 أيار عام 1920 في بولندا لأب كان يعمل موظفاً في الجيش البولندي. وقد تدرج في السلّم الكنسي من راعي إلى أسقف إلى كاردينال إلى أن اختير للمنصب البابوي، ورئيساً للكنيسة الكاثوليكية في عام 1978 ليكون أصغر من تولّوْا هذا المنصب في القرن العشرين. ومضى البابا ليصبح أحد أكثر الوجوه المألوفة في العالم. وقد كان يبلغ من العمر آنذاك (58) عاماً، وهو البابا رقم (265) في تاريخ باباوات الكنيسة الكاثوليكية، كما يُعتبر أول بابا غير إيطالي يتقلد هذا المنصب منذ (465) عاماً. وقد وصل يوحنا بولس الثاني إلى "الكرسي البابوي" بطريقة دراماتيكيّة أثارت العديد من الشبهات حوله، وحول القوى الداعمة له، فقد خلف يوحنا بولس الأوّل الذي لم يبق في منصبه سوى (33) يوماً؛ إذ قيل: إنه سُمّم لأنّه لم يكن مناسباً للمرحلة الخطيرة في ذلك الوقت على الصعيد العالمي، وتمهيداً لقدوم بولس الثاني الذي قيل أيضاً: إنه في حقيقة الأمر من أصول يهودية، وإنه بدّل دينه عند انتقاله من تشيكياً، وهي بلده الأصلي إلى بولندا كما فعل بعض اليهود آنذاك خوفاً من بطش النازيين كما يدّعون، وخاصة من شاهد الحصة التي أنجزتها القناة التلفزيونية الأمريكية (CNN) يوم وفاته، وذلك الحوار مع أصدقاء طفولته اليهود الذين شهدوا بقربه منهم ومحبتهم له ومعرفتهم بحقيقة شخصيته. بل إن المتأمل في مسيرته يرى من وراء ذلك مختلف المخططات الأمريكيّة الأوروبيّة التي دعمت وصوله آنذاك، ومختلف مخابر صناعة الزعماء كيف سهرت على تلميع صورته وإبرازه زعيماً دينياً متسامحاً مع الجميع، وممثلاً ليسوع المسيح (بزعمهم)، وتجدّدت الشبهات حول اختياره مرة أخرى عندما أصبح البطل الأهم في إسقاط الشيوعية في بلده بولندا، ومرة أخرى عندما قدّم الفاتيكان اعترافاً دبلوماسياً رسمياً بدولة إسرائيل، وثالثاً عندما ذهب لحائط المبكى واعتذر لليهود عمّا قام به أسلافه في حقهم. وبغض النظر عن صدقية القول: إنه من أصل يهودي، فإن ما يهمنا هنا هو هذه الشخصية المثيرة في التاريخ المسيحي المعاصر، وتاريخ العالم المعاصر ككل، وأهم ما قام به. لقد كان من أذكى الباباوات في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الممتد 2000 سنة، ومن أكثرهم جرأة على ممارسة نفوذه بقوة شخصية فريدة من نوعها، كما أنه من أكثر الباباوات ممارسة للعمل السياسي والاجتماعي، وأكثرهم حضوراً في عالم ما بعد الثورة الفرنسية التي غيّرت وجه أوروبا إلى ما يسمى بالعلمانية وانحصار الكنيسة في أداء دورها التعبدي الشعائري. فقد أخرج الكنيسة من جمودها، ودفع بها إلى ممارسة دورها الاجتماعي في توفير الإيمان والدعم الأخلاقي في وجه الماديّة المهيمنة على العالم اليوم، مما استعاد للكنيسة الكاثوليكية خصوصاً، والنصرانية عموماً حيويّتها، وخاصة في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. وشملت جولاته البابوية الطويلة أكثر من (120) بلداً، وأحرز لنفسه سمعة دولية كداعية للسلام. وفي عام 2000 قام البابا بخطوة ذكية لها دلالاتها الدينية والحضارية والسياسية بزيارة للمشرق العربي (الشرق الأوسط كما يُقال في الإعلام الغربي والعربي التابع) للاحتفال بذكرى الألفية الثانية، واقتفاء لخُطا القديس بولس، شملت الناصرة في فلسطين ونُصب ضحايا المحرقة النازية في إسرائيل، ودير القديسة (سانت كاترين) في سيناء بمصر. واشتهر البابا بدعوته المستمرة للحوار بين الاديان، وتعزيز التفاهم بينها. ولذلك فيمكن القول: إنه قام بدور لا يعادله دور أي شخصية دينية خلال القرن العشرين الماضي في العالم الغربي. دوره في هدم المعسكر الشيوعي قام البابا بأداء دور محوريّ تاريخيّ في هزيمة الشيوعية بشكل سلمي عام 1989، وذلك في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة التي أدت إلى إعادة التوحيد التاريخي لأوروبا في أيار (مايو) 2004 الماضي عندما انضمت بولندا وثماني دول شيوعية سابقة إلى الاتحاد الأوروبي. فقد تمكن الفاتيكان عبر البابا من لعب دور أساسي في القضاء على الشيوعية وانهيار الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وقد قاد بنفسه الحملة لإسقاط النظام الشيوعي، ليس في موطنه بولندا فحسب، بل وفي معظم دول ما كان يعرف بالكتلة الشرقية. وهذا مما كثف من النشاط السياسي المباشر للفاتيكان مما يخالف الأعراف العلمانية الغربية كما يدّعون، وهذا أيضاً ما يؤكد أن العلمانية التي في الغرب ليست ضد الدين وإنما علمانية ضد الكهنوت والتسلّط الكنسي، لكنا إذا وجدت في الكنيسة سنداً لتحقيق مقولاتها فإنها سرعان ما تفتح الباب للدين لقيادة بل وصياغة مفردات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهذا ما نلاحظه من نشاط للفاتيكان خصوصاً في حماية القيم الأخلاقية في مواجهة ثقافة الشذوذ والإباحيّة، وفي مشاركة الفاتيكان في إسقاط النظام الشيوعي المخالف لسنن الفطرة. أما العلمانية التي صدّرها لنا الغرب فهي علمانية تسلّطية جاهلة متخلّفة ومتحكمة في مصائر الشعوب، ولا تعي دورها سواء في إطار نسختها الغربية التي جاءتنا بها، أو في إطاراتها المختلفة بعد إدخال كثير من المسميّات عليها مثل: الديمقراطية المحليّة، والإصلاح السياسي، أو الحكم الرشيد، أو حرية العقيدة وغيرها. وفي سياق الدور الذي قام به يوحنا بولس الثاني في هدم الكيان الشيوعي، فإن كثيراً من الدراسات تشير إلى الخلفية التي أتى منها وهي خلفية بولندية ذات بيئة يهودية، ولذلك فإما أن أصوله يهودية، أو ذات صلة وصداقة باليهود، وهذا ما عجل بوفاة سلفه بطريقة غامضة؛ لأن يوحنا بولس الأول -كما يُقال- كان لا يتلاءم مع المشاريع المناهضة للشيوعية لكونه مناصراً للفقراء والمزارعين والفلاحين ومتمسكاً في موقف الكنيسة الصلب من اليهود. ولذلك فإن المصالح العليا للغرب اقتضت خرق عُرف دام قرابة خمسة قرون وتنصيب بابا غير إيطالي، خاصّة وأن هذا البابا يرجع إليه الفضل في إعادة العلاقات الدبلوماسية للفاتيكان مع الولايات المتحدة عام 1984 في عهد الرئيس اليميني المسيحي الأمريكي رونالد ريغان. وبدأ دور البابا في خلخلة الاتحاد السوفيتي منذ استلامه منصبه ففي 2 يونيو 1979 بعد ثمانية اشهر فقط من انتخابه واعتلائه الكرسي البابوي. عاد يوحنا بولس الثاني إلى موطنه الأصلي بولندا (مقر حلف وارسو) لمدة تسعة أيام لزيارة كانت بداية انهيار الاتحاد السوفيتي من خلال دعمه لاتحاد نقابات العمال المستقلة (تضامن) في بولندا حيث ساعدها على الوصول للسلطة لتصبح أول حكومة حرة في الكتلة الشرقية، ومن خلال مطالبته القوية بحرية العقيدة والممارسة الدينية في دول العالم الشيوعي وبخاصة في وطنه. وكان ممّا قاله في الجموع المحتشدة هناك: "إن المسيح يحارب الشيوعية، لا تكونوا اشتراكيين، نفهم من الكاهن الأكبر، نريد الله في مدارسنا، نريد الله في منازلنا.."، وكان البابا قد أصدر قبل عام ونيّف كتاباً بعنوان ( الذاكرة والهوية) قال فيه: إن الشيوعية كانت "شراً لابد منه، وإن هذا الشر المستطير كان يبتلعنا". والكل يتذكر كيف توالت الانهيارات التي شهدها المعسكر الشرقي ابتداء من بولندا وانتهاء بيوغسلافيا، وكيف استعادت المسيحية دورها من جديد، وكيف انضم نصارى أوروبا الشرقية إلى إخوانهم نصارى أوربا الغربية تحت لواء أوروبا الموحدة، وكيف يتم التأكيد مرة بعد أخرى على أن المسيحية هي الدين المهيمن في أوربا الموحدة، وكيف يعارض كثير من ساسة أوروبا انضمام تركيا؛ لأنها ليست مسيحية، وهو ما يشكل إدخال عنصر غريب في الجسم المسيحي الأوروبي، كما يؤكد ذلك رجالات الكنيسة وكثير من ساسة أوروبا من أصحاب القرار. تبرئة يهود من دم المسح، وتعاطف مع إسرائيل أما فيما يتعلق باليهود فإن يوحنا بولس الثاني ما كاد يقضي الثلاث سنوات في منصبه حتى أعلن في عام 1982 الاعتراف بدولة إسرائيل من باب الحق الديني. ثمّ قام البابا بتغيير جذري في مفاهيم الكنيسة يتناسب مع التطورات والتغييرات التي قام بها منذ اعتلائه كرسي الفاتيكان، فأصدر الفاتيكان عام 1985 وثيقة حول "العلاقات الكاثوليكية اليهودية"، وحثّت الوثيقة جميع الكاثوليك في العالم على استئصال رواسب العداء للسامية وذكّرتهم أن المسيح عبراني أيضاً، ولذلك يجب تفهّم تمسّك اليهود بأرض أجدادهم. واستمر هذا التغيير الدراماتيكي في موقف الكنيسة من اليهود إلى أن حصلت خطوة أخرى تؤكد الصلة الوثيقة بين ماضيه المتصل باليهود وقراراته المناصرة لهم وللصهيونية، وبين التساؤلات المثارة حول من دفع به إلى زعامة الفاتيكان، فقام في عام 1986 بزيارة كنيس يهودي في روما ليكون بذلك أوّل بابا في تاريخ الباباوية يزور كنيسا يهوديا، ثمّ قدم اعتذاراً خطّياً وشفهياً عما يسمى "بالهولوكست اليهودي" عبر الوثيقة الصادرة عن الفاتيكان في 16/3/1998، وجاء فيها: "عندما طردت النازية من أراضيها جموع اليهود ووحشية الحركات العنيفة التي أصابت أناساً عُـزَّلا من السلاح، كل هذا كان يجب أن يحرك الشك بما هو أسوأ، هل قدم النصارى كل مساعدة ممكنة للمطاردين وبخاصة اليهود؟ لا نستطيع أن نعرف كم عدد النصارى في الدول التي احتلتها أو حكمتها القوى النازية أو حلفاؤها، احتجوا بغضب على فقدان جيرانهم اليهود، ولم يكونوا شجعاناً بما فيه الكفاية لسماع أصواتهم المعارضة، وللنصارى أقول: إن هذا الحمل الثقيل الجاثم على ضمائرهم بخصوص إخوانهم وأخواتهم خلال الحرب العالمية الأخيرة يجب أن يكون مدعاة للندم". وفي الحقيقة فإن هذا يعتبر تواصلاً مع ما أصدره الفاتيكان سنة 1965، من وثيقة "تبرئة اليهود من دم المسيح" بعد ضغوط كبيرة من اليهود والصهيونية العالمية التي ضغطت بشكل كبير على الكنيسة بمساعدة الولايات المتّحدة وأوروبا، خاصّة فيما يتعلّق باتّهام الكنيسة بالتواطؤ مع النازية التي افتعلت "الهولوكوست" كما يدّعون. وقد كان يوحنا بولس الثاني أحد أهم الذين صاغوا تلك الوثيقة ويعتبر من مهندسيها. وفي سنة 1991 صرح يوحنا بولس الثاني بأنه يصلّي من أجل أن يحيا "إخوتنا اليهود" بسلام في أرضهم. ثم في كانون أول من عام 1993 وقّع الفاتيكان وثيقة تبادل دبلوماسي مع دولة إسرائيل، وفي نهاية عام 1997 قدم البابا يوحنا بولس الثاني وثيقة بعنوان (نحن نتذكر) لمناقشة وتعديل النصوص في العهد الجديد التي تحمّل اليهود مسؤولية صلب المسيح وقصة تلاميذ المسيح بصفة خاصة، وكان يشير إلى مثل النص الإنجيلي القائل لليهود على لسان المسيح عليه السلام: "أيها الشعب الغليظ الرقبة، يا أولاد الأفاعي، يا أبناء الشيطان، أنتم لستم من أبناء إبراهيم، أنتم أبناء الشيطان" إلى أنه معاداة للسامية، فعمد إلى طمسه. خاتمة: من بابا جدار برلين إلى بابا ما بعد 11/9: هذان أهم إنجازين حققهما البابا يوحنا بولس الثاني طيلة تربّعه على الكرسي البابوي للكنيسة الكاثوليكيّة، غير أن هذا لا ينسينا ما قام بإنجازه على مستوى توحيد الكاثوليك في العالم بطريقة لم يسبق لها مثيل، واسترجع دور الكنيسة ومكانتها، كما أنه عمل على الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه نبي، وأن القرآن موحى إليه وليس من تأليفه، بعدما كان النصارى يرون النبي -صلى الله عليه وسلم- مهرطقاً في كتبهم الكنسيّة على مدار التاريخ، ابتداء من يوحنا الدمشقي إلى جيري فالويل الأمريكي الذي يقود التيار المسيحي المتصهين اليوم. كما أنه ساهم في نشر المسيحية في العالم الإسلامي والعالم أجمع بطريقة رهيبة من خلال شعار المحبة والتسامح، وهذه أخطر الإستراتيجيات التي رسمها الفاتيكان ويوحنا بولس الثاني على رأسه. بقي أن نقول في الأخير: إن الغرب يعرف كيف يصنع زعاماته وينيط بها أدواراً تاريخية من أجل تحقيق أهدافه الحضارية دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية أم ثقافية. ولذلك فإنهم الآن يحضّرون لبابا جديد يتلاءم مع ما بعد 11سبتمبر والملفات الشائكة التي أفرزتها التغيرات الكبرى التي حدثت بعد سقوط المعسكر الشرقي، وتوحّد أوروبا، والحرب على الإرهاب، والصراع على القدس، والحفاظ على هوية أوروبا المسيحيّة وتضمينها الدستور الأوروبي، والحوار بين الأديان، وخاصة مع الإسلام والمسلمين، واليمين المسيحي المتصهين (البروتستانتي الإنجيلي خاصة).