الرأسمالية العنيفة أضاعت بوصلتها
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
الاقتصادية
| المصدر :
www.aleqt.com
كلمة الاقتصادية
بعد أن دفعت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت ثاتشر في بداية ثمانينيات القرن الماضي، بالمبادئ الرأسمالية المجردة في المجتمع إلى أقصى مدى لها، مدعومة بصورة تكاملية من حليفها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، وجدت بريطانيا نفسها تحت قيادة ''السوق'' الشرسة، تطبق قوانينها المنفلتة على المجتمع، بينما صارت قوانين المجتمع ومعاييره شيئا من الماضي. وبدلاً من أن يسن المجتمع القوانين، تحولت السوق إلى مشرع وحيد يستقوي بحكومة محافظة تسيطر على أغلبية برلمانية كبيرة. ولم يمضِ عقد من الزمن، حتى أصبحت الأغلبية أقلية، تناقصت بصورة دورية، الأمر الذي هدد بقاء الحكومة بالسلطة. الحل، كان طرد ثاتشر من زعامة الحزب ورئاسة الحكومة. ماذا كان الشعار الذي رفعه خليفتها جون ميجور؟ ''العودة إلى الأصول''. لقد كان هذا الشعار بمنزلة اعتذار من المحافظين، على الرأسمالية (المفرطة بعنفها) التي أطلقت ثاتشر لها العنان.
هذا مثال قريب تاريخياً، عن تخبط الرأسمالية وتعدد أشكالها في الثلاثة عقود الماضية، وإن ساد الشكل الأعنف لها في الفترة المذكورة. هذا العنف أضاع بوصلتها، ليس فقط جراء الأزمات الاقتصادية العالمية المتعددة والمتتالية، بل أيضاً بسبب الآثار الفادحة التي تركتها على المجتمعات. لم تتحمل هذه المجتمعات مبادئ آدم سميث فترة طويلة. فقدت اكتشفت (بعد التجربة)، أن الأخلاق الغائبة عن السوق لا تنتج إلا رأسمالية همجية جشعة، ترى في السوق بديلاً طبيعياً عن المجتمع! على اعتبار أنها (أي السوق) هي التي تشكله لا العكس! في ظل هذا المشهد، هامت الرأسمالية (بكل أشكالها) على وجهها، دون أن تعود الروح إلى الاشتراكية، التي أصدرت شهادة وفاتها بنفسها. فإذا كانت الرأسمالية أضاعت البوصلة، فإن الاشتراكية لم تمتلك بوصلة أصلاً، وكانت النتائج باهرة في فداحتها في كل الدول التي اعتمدتها.
بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، ضاعت كل الآمال في إمكانية عثور رأسمالية ما قبل الأزمة على بوصلتها، رغم المحاولات المستميتة التي قام (ويقوم) بها ''حرسها'' القديم، لاستعادة ما أمكن له من أدوات وأسلحة لإعادة إطلاقها من جديد. فقد كان (وما زال) دور الدولة في الإنقاذ، حاسماً وضرورياً.. بل ووحيداً. وكانت المفارقة الكبرى، أن السوق التي هيمنت على المجتمع وأهانته، لم تجد غيره يمكن أن يوفر لها قوارب النجاة، لكن هذه المرة ليس دون مقابل، يرتكز أساساً على تطويع السوق وفق حاجات المجتمع أولاً، وهو الضامن الوحيد لإدخال الأخلاقيات اللازمة إليها. لقد أدت الأزمة إلى ظهور ما يمكن تسميته ''الطريق الثالث''، لا الرأسمالي الخالص، ولا الاشتراكي المفرط. وهو ''رأسمالية جديدة''، لكنها لم تصل بعد مرحلة التمكين، لأنها ما زالت في مرحلة التشكيل، وتحتاج مزيدا من الوقت، ليس فقط للتدرب والتدريب عليها، ولكن أيضاً للتخلص نهائياً من ''فلول'' رأسمالية ما قبل الأزمة، الذين ما زالوا ''يناضلون'' من أجل الإبقاء على ما أمكن من المعايير، بل والسلوكيات السابقة.
وفي الواقع تتشكل ثقافة الرأسمالية الجديدة، في خضم عمليات الإنقاذ الكبرى التي أطلقتها الحكومات في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية. وهذه الثقافة تحتاج تعاونا دوليا كاملا، لكي تتكرس على الساحة، وتحتاج أيضاً قوانين صارمة، لا تطلق أيدي الدولة كاملة، ولكن تقطع الأيادي التي عبثت بالسوق والمجتمع في آن معاً. فلا يمكن أن تسير العربة إذا كانت قبل الحصان، ويستحيل على مدير مصرف (على سبيل المثال)، أن يضع المعايير التي يحتاجها الفرد في معيشته اليومية. إن الأزمة الاقتصادية أحدثت بالفعل ثورة لم تقلب الموازين، بل أعادتها إلى نصابها.