اليابان.. البلاد التي تعرف كيف تواجه الشدائد
الناقل :
elmasry
| الكاتب الأصلى :
بيكو آيير
| المصدر :
www.aawsat.com
السياحة تستعيد عافيتها بخجل بعد أن ضربها التسونامي
فقدت اليابان نسبة 50% من السياحة بعد الكوارث الطبيعية التي حلت بها وها هي اليوم تلملم جراحها وتستقبل السياح من جديد
طوكيو: بيكو آيير*
في صباح يوم مشرق في بداية فصل الربيع في الشهر الحالي، ذهبت إلى معبد ريو - آن - جي، في كيوتو حيث أشهر حديقة صخرية في العالم. لم يكن هناك أي شخص أجنبي آخر في المعبد، ولم يكن هناك عدد كبير من اليابانيين في هذا المكان الذي تبلغ مساحته 120 فدانا. وقررت أن أقوم بتلك الرحلة في عطلة الربيع، حيث يقل عدد الرحلات المدرسية الصاخبة في ذلك الوقت.
جلست فوق تكوين غامض من 15 صخرة تم ترتبيها بطريقة تبدو عشوائية عبر مساحة كبيرة من الرمال الممشطة، ولم أستطع سماع أي شيء سوى تغريد الطيور الذي يأتي من أشجار الكرز التي تحيط بي، حيث كان صوت المياه التي تتساقط من شلال رقيق من الخيزران في حوض من الحجارة يصبح أكثر عمقا، مما زاد من حدة الصمت في المكان. كانت الأشياء الموجودة حول الحوض تقول: «بات لديك كل ما تحتاجه».
كان السكون والرحابة والانتباه هو كل ما كنت أشعر به في ذلك الوقت. على الرغم من انخفاض السياحة الأجنبية إلى اليابان بنسبة 50 في المائة في الأشهر الثلاثة التي أعقبت التسونامي الذي وقع في شهر مارس (آذار)، تقول منظمة السياحة الوطنية اليابانية إن هذا الرقم قد تحسن كثيرا لتبلغ نسبة الانخفاض 4 في المائة فقط اعتبارا من شهر يناير (كانون الثاني) عام 2012.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه كان للاتساع المريح للذهن، الذي يعتبر أحد المزايا التي تتمتع بها اليابان، صدى جديد هذا العام، فعلى المستوى الظاهري بدأت البلد التي كانت بالأمس ترحب بقدوم شخص ما من سان فرانسيسكو أو نيويورك تعود إلى ما كانت عليه منذ عامين، على الرغم من الكارثة التي حدثت العام الماضي. أما على المستوى العميق، فتبدو اليابان أكثر عرضة للخطر، وبالتالي أكثر انفتاحا عن أي وقت مضى.
أدى الزلزال الذي بلغت قوته 9 درجات وأمواج التسونامي وكارثة المفاعل النووي التي ضربت اليابان في 11 مارس 2011 إلى وفاة نحو 20 ألف شخص تقريبا، وأدت إلى إرباك الاقتصاد الياباني الذي كان يعاني بالفعل نتيجة 20 عاما من الركود وإضعاف معنويات المواطنين الذين يشهدون حالة انتحار كل 17 دقيقة، وفقدان للهدف وتعيين رئيس الوزراء السابع في أقل من ست سنوات.
وسلطت هذه الأزمات الضوء على مشاعر الصمود والثقة بالنفس والإحساس بالمصلحة العامة التي تتميز بها اليابان، حيث بدت البلد الذي يصر على اختلافه عن باقي بلدان العالم فجأة في صورة أكثر إنسانية ورحمة وشجاعة. لطالما كانت اليابان، كما وصفتها مجلة «مونوكل» العالمية في عدد حديث لها، «أكثر أمة سحرا في العالم»، ولكنها أصبحت الآن من أكثر البلدان امتنانا للزوار أيضا.
بمعنى آخر كنت سترى في يوم عادي من الشهر الحالي - الذي يشهد الذكرى السنوية الأولى للتسونامي - تكوينات هائلة من الزهور المتفتحة في «ماروياما بارك» التي تقع وسط كيوتو، بينما تسبح الشموع في مجرى مائي قريب. بوسعك أيضا الانضمام إلى النساء اللاتي يرتدين الكيمونو في تتبع مسار يتكون من 2.500 مصباح على طول التلال الشرقية من العاصمة القديمة، ومشاهدة راقصات المياكو أو فتيات الغيشا المبتدئات وهن يؤدين الرقصات الاحتفالية المجانية في ضريح ياساكا. وبوسعك أيضا أن تستقل قطارا أو حافلة لتصل إلى متحف ميهو المذهل الذي صممه المهندس المعماري إيو مينغ بي، والذي يقع وحيدا في حديقة طبيعية ضخمة مهجورة تبعد 70 دقيقة عن محطة كيوتو التي يكتمل شكلها بوجود نفق عصر الفضاء على مدخل المحطة، أو الانضمام إلى 15 ألف متسابق في ماراثون كيوتو الأول.
على الجانب الآخر، تتجلى الصفات التي لطالما ميزت اليابان، وأبرزها التواضع في كل مكان. ففي المطار، يقفز سائقو سيارات الأجرة من سياراتهم للمساعدة في تحميل صناديق السيارات التي أمامهم. وفي المتاجر الصغيرة، أثبتت الفتيات ذوات الشعر المصبوغ باللون الأصفر وظلال العيون الشاحبة، أنهن لسن أقل كفاءة أو أدبا من الفتيات اللاتي تخرجن حديثا في المدارس الثانوية. وفي الثالث من مارس من العام الحالي، وفي كل عام، تتناول العائلات كعكات أرز ماسية الشكل ذات طبقات وردية وبيضاء وخضراء وتقوم بوضع دمى من القش لتطفو فوق سطح المياه خلال الاحتفال بمهرجان الدمى.
وفي الأعوام الخمسة والعشرين التي عشت فيها بالقرب من كيوتو، شاهدت تلك المدينة التي تحتوي على 1.600 معبد، وهي تزيد من الطابع الاحتفالي والعالمي والزاهي الذي يميزها. ولا تزال شركات التنمية العقارية على وقاحتها في تدمير المباني الخشبية لإفساح المجال أمام بناء كتل خراسانية قبيحة، في الوقت الذي يزداد فيه ازدحام حارات المرور الضيقة بالسيارات.
وعلى الرغم من ذلك، يظل قلب الثقافة اليابانية أصغر سنا وحيوية على الدوام بطريقة أو بأخرى، حيث تجلت ثقافة الطلبة هذا الشهر في عروض الرقص الارتجالي ومعارض الفنون التي أقيمت بالقرب من وسط المدينة. ويذكر أن هناك 38 مركزا للتعليم العالي بالقرب من كيوتو. وتبنى فنادق ذات تصميمات جديدة كل موسم، وتترك المعابد أبوابها مفتوحة بعد حلول الظلام حتى يتمكن الناس من التجول خلال العوالم الغريبة المضاءة أثناء الظلام.
لا تزال كيوتو تحافظ على طقوس حفلات الشاي وارتداء الكيمونو وتأمل الزن المتوارث منذ الأجداد، ولكنها تعتبر أيضا مكانا أنيقا متفردا يضم أول متحف للروايات الهزلية المصورة في اليابان، وهو مكعب ذو تصميم مستقبلي يتكون من 15 طابقا ويعتبر محطة قطارات ومقرا لشركة «ناينتندو».
أضحت لافتات الشوارع مكتوبة باللغة الإنجليزية مثلها تماما مثل الإعلانات الموجودة في محطات القطارات والحافلات، وهو ما كان كذلك حينما وصلت إلى هنا. وتؤدي قوة الين الياباني إلى زيادة الأسعار بنسبة 50 في المائة بالنسبة للذين يتعاملون بالدولار مقارنة بالأسعار منذ خمس سنوات، ولكن الأسعار لا تزال أقل من مثيلاتها في بريطانيا ومعظم أنحاء شمال أوروبا، وبخاصة إذا استخدمت بطاقة القطارات اليابانية واخترت مكان إقامتك بحرص. وسعر البيتزا في المقهى المحلي الذي أتردد عليه أقل من خمسة دولارات، ولا توجد ضرائب أو إكراميات، في حين يصل سعر كوب مملوء عن أخره بالكابوتشينو من ماكينة البيع إلى 1.5 دولار. الأهم من ذلك أن اليابان تظل مختلفة عن أي مكان آخر عرفته في العالم.
لا ينفي أي من تلك المظاهر الرعب الناجم عما شهده العام الماضي من كوارث. وعندما قمت بزيارة مدينة سينداي، التي تقع في الشمال، وهي الأقرب إلى مركز الزلزال، منذ أربعة أشهر، وجدت منطقة وسط المدينة صاخبة متألقة بالأضواء كما كان الحال دوما، ولكن هناك مشاهد مروعة على بعد 40 دقيقة فقط بالسيارة، حيث لا تزال بعض الملابس معلقة خارج المنازل التي دمرت بالكامل في الوقت الذي انقلبت فيه شواهد القبور رأسا على عقب.
وفي الشهر نفسه قمت بزيارة قرية مجاورة تشتهر بصيد الأسماك هي قرية إيشينوماكي، التي دمرها التسونامي وسواها، بصحبة زعيم التيبت الدالاي لاما الذي لم يستطع منع دموعه من الانهمار، على الرغم مما يتصف به من رباطة جأش. وبالقرب من مفاعل فوكوشيما النووي، الذي قمت بزيارته في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، كانت المتاجر مغلقة والطرق خالية إلا من بعض عمال المفاعل الذين كانوا يضيعون الوقت في لعبة الـ«بينبول» أو على الثلاث طاولات المهجورة على المقاهي، حيث كان يغني فريق «بيتش بويز».
وعلى الرغم من ذلك، وحتى في المنتجع الذي كنت أسكن فيه والذي يبعد ساعة تقريبا عن موقع المفاعل النووي، فإن غرفة الإفطار كانت تعج بلاعبي الغولف الشغوفين المقبلين من طوكيو الذين كانوا ينتظرون ضرب أول كرة في لعبة الغولف ذات التسع حفر عند الفجر وفي أثناء هطول المطر.
من الصعب على الغرباء تقدير مدى قدرة اليابان على مواجهة الشدائد بعد أكثر من ألف عام من الحرائق والزلازل والحروب. يتميز الشعب الياباني بالحذر والحكمة بصورة ملحوظة، ولكنهم لا يبالون بالمشاعر التي لا طائل من ورائها. رأت زوجتي اليابانية هيروكو، التي تنحدر عائلتها من هيروشيما، أول أحفادها الذي ولد في يوكوهاما العام الماضي، والذي بلغ أسبوعين من عمره عند حدوث الكارثة النووية على بعد 150 ميلا فقط. أخبرت هيروكو ابنها بضرورة اتخاذ إجراءات وقائية معقولة، مؤكدة في الوقت ذاته عدم وجود مكان آمن تماما.
أبعد الابن، الذي نشأ بجوارنا، ابنته الرضيعة وزوجته إلى أوساكا، التي تبعد 250 ميلا عن شقته الكائنة في طوكيو، لكنه استمر في العمل في العاصمة، التي تبعد 130 ميلا عن موقع المفاعل النووي.
يستطيع الزوار اليوم الاستمتاع بكل مظاهر الجمال في شتى أنحاء اليابان، ويقدمون في الوقت ذاته دعما معنويا وعمليا لليابان. تقدم جولة «اكتشاف توهوكو» جولات سياحية لمدة أربعة أو ستة أيام للمناطق الجميلة التي تقع بالقرب من مركز الكارثة التي حدثت العام الماضي، بما في ذلك الخليج المليء بالجزر كالمعتاد الذي يقع بالقرب من ماتسوشيما ومعابد هيرايزومي التي تعد من مناطق التراث العالمية.
الشهر الحالي، بدأت شركة «بيتش أفيشين»، التي تعد واحدة من الكثير من شركات الطيران منخفضة التكاليف الجديدة التي توفر رحلات طيران إلى اليابان، في تدشين رحلات جوية من مدينة أوساكا إلى سابورو البعيدة، بأقل من 60 دولارا، وهو ما يعادل سدس تكلفة تذكرة القطار.
ربما تكون قصة «أجزاء» (Pieces) هي الألطف والأجمل بين قصص كتاب «مارس كان مصنوعا من الغزل» (March Was Made of Yarn) للكاتبة اليابانية ميتسويو كاكوتا، وهو عبارة عن مختارات من القصص القصيرة التي طبعت مؤخرا في الذكرى الأولى لكارثة العام الماضي. تحكي قصة «أجزاء» عن امرأة في منتصف العمر تسترجع قصة حياتها بعد علمها بأن زوجها كان برفقة عشيقة شابة خلال وقت الانقطاع الكبير للكهرباء عن طوكيو.
تعلمت تلك المرأة خلال سنوات الازدهار في اليابان أن «التملك لا يعني السعادة»، ولكنها تعلمت الآن أن «الخسارة ليست هي أصل التعاسة». وفي الوقت الذي عاد في التيار الكهربائي إلى مدينتها، تؤكد هذه المرأة أن لحظات السعادة التي مرت في حياتها لا يمكنها أن تمحو ما قابلته من خسارة، كذلك لا تستطيع تلك الخسارة أيضا أن تمنعها من الشعور بالسعادة.
أن تتمكن من وضع هاتين الفكرتين في رأسك، كما هو حال الكثير من اليابانيين، وأن ترى أن الحياة تعني متعة الوجود في عالم من الأحزان، وأن عدم السعادة ليس بمذاق المعاناة، من العطايا التي لا تزال تلك الدولة العريقة قادرة على تقديمها.
وترفرف أوراق أشجار الكرز فوق الطاولات المؤدية إلى معبد كانون العظيم الذي يقع في منطقة أساكوسا في طوكيو. أما في مدينة نارا التي كانت عاصمة اليابان في القرن الثامن الميلادي، فتحمل الفتيات المظلات تحت أزهار شجر البرقوق لحماية وجوههن من شمس الربيع المشرقة.
* خدمة «نيويورك تايمز»