نفائس كلمات الإمام ابن القيم رحمه الله (3)
الناقل :
المحب لدينه
| الكاتب الأصلى :
ابو اميمة محمد74
| المصدر :
www.4salaf.com
قَالَ الشَّيخُ الإِمامُ - رَحمَه اللهُ - :
وَفِي غَضِّ البَصرَ عِدَّةُ مَنافِعَ :
أَحَدُها : أنَّه امتثَالٌ لأمرِ اللهِ الذِي هُو غَايَةُ سَعادةِ العبدِ فِي مَعاشِهِ وَمعادِهِ ، وَلَيسَ لِلعبدِ فِي دُنياهُ وَآخرَتِه أَنفعُ مِن امتِثالِ أَوَامِرِ ربِّه - تَبارَك وَتعالَى - ، وَمَا سَعِدَ مَن سَعدَ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ إلا بِامتِثَالِ أَوامِرِهِ ،وَما شَقِيَ مَن شَقيَ فِي الدُّنيا وَالآخِرةِ إلا بِتَضييعِ أَوامرِهِ .
الثاني : أَنه يَمنعُ مِن وُصولِ أَثرِ السُّمِّ المَسمومِ الذي لَعل فِيه هَلاكَهُ إلَى قَلبِهِ .
الثَّالِثُ : أنَّه يُورِثُ القَلبَ أُنسَاً بِاللهِ وَجَمعيَّةً عَلى اللهِ ؛ فإنَّ إِطلاقَ البَصرِ يٌفرَِقُ القلبَ وَيُشتِّتُه وَيُبعدُه مِن اللهِ ، وَليسَ عَلى العبدِ شَيءٌ أَضَرَّ مِن إِطلاقِ البَصرِ ؛ فَإنَّه يُوقِعُ الوَحشَةَ بَين العَبدِ وَبينَ ربِّه .
الرَّابِعُ : أنَّه يُقَوِّي القَلبَ وَيُفرِحُه ، كَمَا أَنَّ إِطلاقَ البَصَرِ يُضعِفُه وَيُحزِنُه .
الخَامِسُ : أَنَّهُ يُكسِبُ القَلبَ نُورَاً ، كَمَا أَنَّ إِطلاقَهُ يُكسِبُهُ ظُلمَةً ، وَلِهذَا ؛ ذَكَرَ - سُبحَانَه - آيَةَ النُّورِ عقِيبَ الأَمرِ بِغَضِّ البَصَرِ ؛ فَقَالَ : ( قُل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِن أَبصَارِهِم ، وَيَحفَظُوا فُرُوجَهُم ) ، ثُمَّ قَالَ إثرَ ذَلِك : ( اللهُ نُورُ السَّمواتِ والأَرضِ ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَاةٍ فِيهَا مِصبَاحٌ ) أَيً : مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلبِ عَبدِه المُؤمِنِ ، الذِي امتَثَلَ أَوَامِرَهُ ، وَاجتَنَبَ نَواهِيَهُ ، وَإِذَا استَنَارَ القَلبُ أَقبَلَت وُفُودُ الخَيراتِ إلَيهِ مِن كُلِّ جَانِبٍ كَمَا أَنَّه إِذَا أَظلَمَ أَقبَلَت سَحَائِبُ البَلاءِ وَالشَّرِّ عَلَيهِ مِن كُلِّ مَكَانٍ ، فَمَا شِئت مِن بِدعَةٍ وَضَلالَةٍ وَاتِّبَاعِ هَوىً واجتِنَابِ هُدَىً وَإِعرَاضٍ عَن أَسبَابِ السَّعَادةِ واشتِغالٍ بأسبابِ الشَّقَاوةِ : فإنَّ ذلك إنَّما يَكشِفُه له النُّورُ الذِي فِي القَلبِ ؛ فإذَا فُقِدَ ذلك النُّورُ بَقِيَ صَاحِبُه كَالأَعمَى الذي يَجُوسُ فِي حَنادِسِ الظَّلامِ .
السَّاِدسُ : أَنَّه يُورِثُ الفِراسَةَ الصَّادِقَةَ التِي يُمَيَّزُ بِها بَينَ المُحِقِّ والمُبطِلِ ، والصَّادِقِ والكاذِبِ ، وَكانَ شُجاعٌ الكِرمَانيُّ يَقُولُ : " مَن عَمَّرَ ظَاهِرَه بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ ، وَبَاطِنَه بِدَوَامِ المُرَاقَبَةِ ، وَغَضَّ بَصَرَه عَنِ المَحَارِِمِ ، وَكفَّ نَفسَه عَنِ الشَّهَوَاتِ ، وَاعتَادَ أَكلَ الحَلالِ : لَم تُخطئ لَهُ فِرَاسَةٌ " .
وَكَانَ شُجَاعٌ هذا لا تُخطِئُ لَه فِرَاسَةٌ ، وَاللهُ - سُبحانَه - يَجزِي العَبدَ عَلى عَمَلِه بِمَا هُو مِن جِنسِ عَمَلِه ، وَ (مَن تَرَكَ شَيئاً للهِ عَوَّضَه اللهُ خَيرَاً مِنهُ .
فَإذَا غَضَّ بَصَرَه عَن مَحارِمِ اللهِ عَوَّضَه اللهُ بأن يُطلِقَ نُورَ بَصيرَتِه عوضَاً عَن حبسِهِ بَصَرَه للهِ ، وَيفتَحُ له بَابَ العِلمِ وَالإيمانِ وَالمَعرِفَةِ وَالفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ المُصِيبَةِ ، التي إنَّمَا تُنالُ بِبَصِيرةِ القَلبِ ، وَضِدُّ هذَا مَا وَصَفَ اللهُ بِه اللُّوطِيَّةَ مِنَ العَمَهِ الذِي هُوَ ضِدُّ البَصِيرَةِ ، فَقَالَ تَعَالَى : (لَعَمرُكَ إِنَّهم لَفِي سَكرَتِهِم يَعمَهُون ) .
فَوَصَفَهم بِالسَّكرَةِ ، التِي هِيَ فَسَادُ العَقلِ ، وَالعَمَهِ الذِي هُوَ فَسَادُ البَصَرِ ، فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ يُوجِبُ فَسَادَ العَقلِ ، وَعَمَهُ البَصِيرةِ يُسكِرُ القَلبَ ، كَمَا قَالَ القَائلُ :
سَكران سُكرَ هَوىً وَسُكرَ مَدامَةٍ * وَمَتَى إِفَاقَةُ مَن بِه سُكران
وَقَالَ الآخَرُ :
قَالُوا جُنِنتَ بِمَن تَهوَى فَقُلتُ لَهم : العِشقُ أَعظَمُ مِما بِالمَجَانِين * العِشقُ لا يَستَفِيقُ الدَّهرَ صَاحِبُه * وَإِنََّما يُصرَعُ المَجنونُ فِي الحِينِ .
السَّابِعُ : أَنَّه يُورِثُ القَلبَ ثَباتَاً وَشَجاعَةً وَقُوَّةً وَيجمَعُ اللهُ لَهُ بَينَ سُلطانِ البَصِيرَةِ وَالحُجَّةِ وَسُلطَانِ القُدرَةِ وَالقُوَّةِ ، كَمَا فِي الأَثَرِ : (الذِي يُخالِفُ هَوَاه يَفِرُّ الشَّيطانُ مِن ظِلِّهِ) ، وَمِثلُ هذَا تَجِدُه فِي المُتَّبِعِ هَواهُ مِن ذُلِّ النَّفسِ وَوَضَاعَتِهَا وََمَهَانَتِهَا وَخِسَّتِهَا وَحَقَارَتَِهَا وَمَا جَعَلَ اللهُ - سُبحانَه - فِيمَن عَصَاه ، كَمَا قَالَ الحَسَنُ : "إِنَّهُم - وَإن طَقطَقَت بِهِمُ البِغَالُ وَهَملَجَت بِهِمُ البَراذِينُ - : فَإنَّ ذُلَّ المَعصِيَةِ لا يُفَارِقُ رِقَابَهُم ، أَبَى اللهُ إِلا أَن يُذِلَّ مَن عَصَاهُ " .
وَقَد جَعَلَ اللهُ - سُبحانَه - العِزَّ قَرينَ طَاعَتِه ، وَالذُّلَّ قَرِينَ مَعصِيَتِه ،فَقَالَ تَعالى : (وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَللمُؤمِنين ) ، وَقَال - تَعَالَى - : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا وَأنتُمُ الأعلَونَ إن كُنتُم مؤمنين ) ، وَالإِيمانُ قَولٌ وَعَمَلٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ .
وَقَال - تَعَالى - : ( مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلهِ العِزَّةُ جَمِيعاً ، إليهِ َيصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُه ، أَي : مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَليَطلُبها بِطاعِةِ اللهِ وَذِكْرِهِ مِن الكَلِمِ الطِّيِّبِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَفي دُعاءِ القُنوتِ :"إنه لا يَذِلُّ مَن وَالَيتَ ، وَلا يَعِزُّ مَن عَاديتَ " وَمَن أَطَاعَ اللهَ فَقَد وَالاه فِيما أَطَاعَه فِيه ، وَلَه مِن العِزِّ بِحَسَبِ طَاعَتِه ، وَمَن عَصَاه فَقَد عَادَاه فِيمَا عَصَاه فِيه ، وَلَه مِن الذُّلِّ بِحَسَبِ مَعصِيَتِه .
الثَّامِنُ : أَنَّه يَسُدُّ عَلى الشَّيطانِ مَدخَلَه مِن القَلبِ ، فإنَّه يَدخُلُ مَعَ النَّظرَةِ ، وَينفُذُ مَعَهَا إلَى القَلبِ أَسرَعَ مِن نُفُوذِ الهَوى فِي المَكَانِ الخَالِي ، فَيُمَثِّلُ له صُورَةَ المَنظُورِ إلَيه وَيُزَيِّنُها وَيَجعَلُها صَنَمَاً يَعكُفُ عَلَيهِ القَلبُ ، ثُمَّ يَعِدُه وَيُمَنِّيهِ وَيُوقِدُ عَلى القلبِ نَارَ الشَّهوةِ وَيُلقِى عَلَيه حَطَبَ المَعَاصِي التِي لَم يَكُن يَتَوَصَّلُ إلَيها بِدُون تِلكَ الصُّورَةِ ، فَيَصِيرُ القَلبُ فِي اللهَبَ ، فَمِن ذلِك اللهَبِ تِلكَ الأنفَاسُ التِي يَجِدُ فِيهَا وَهَجَ النَّارِ وَتِلكَ الزَّفَرَاتُ وَالحَرَقَاتُ ، فَإنَّ القَلبَ قَد أَحاطَت بِهِ النِّيرانُ بِكُلِّ جَانِبٍ ، فَهُو فِي وَسطِهَا كَالشَّاةِ فِي وَسطِ التَّنُّورِ .
لِهذا ؛ كَانَت عُقُوبَةُ أَصحَابِ الشَّهَوَاتِ بِالصُّوَرِ المُحَرَّمَةِ أَن جَعَلَ لَهم فِي البرزَخِ تَنَّورَاً مِن نَارٍ ، وَأُودِعَت أَروَاحُهم فِيه إلَى حَشرِ أَجسَادِهِم ، كَمَا أَرَاهَا اللهُ لِنَبِيِّه - صَلى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ - فِي المَنَامِ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِه .
التَّاسِعُ : أَنَّه يُفَرِّغُ القَلبَ لِلفِكرَةِ فِي مَصَالِحِه وَالاشتِغَالِ بِهَا ، وَإِطلاقُ البَصَرِ يُشَتِّتُ عَلَيهِ ذلِكَ ، وَيَحولُ بينه وبينها ، فَتنفَرِطُ عَليهِ أُمُورُهُ ، وَيَقَعُ فِي اتِّبَاعِ هَواهُ ، وَفِي الغَفلَةِ عَن ذِكرِ رَبِّه ، قَالَ تَعَالَى : (وَلا تُطِع مَن أَغفَلنَا قَلبَه عَن ذِكرِنَا ، وَاتَّبَعَ هَواهُ ، وَكَانَ أَمرُهُ فُرُطَاً )
وَإطلاقُ النَّظَرِ يُوجِبُ هذه الأُمُورَ الثَّلاثَةَ بِحَسَبِهِ .
العَاشِرُ : أَنَّ بَينَ العينِ والقَلبِ مَنفَذَاً - أَو طَرِيقَاً - يُوجِبُ اشتِغَالَ أَحَدِهِمَا عَنِ الآخَرِ ، وأََن يَصلُحَ بِصَلاحِه ، وَيفسُدَ بِفَسَادِه ، فإذَا فَسَدَ القَلبُ فَسَدَ النَّظَرُ ، وَإذَا فَسَدَ النَّظَرُ فَسَدَ القَلبُ ، وَكذلِكِ فِي جَانِبِ الصَّلاحِ ، فإذَا خَرِبَتِ العَينُ وَفَسَدَت خَرِبَ القَلبُ وَفَسَدَ ، وَصَارَ كَالمَزبَلَةِ التِي هِي مَحَلُّ النَّجَاساتِ والقَاذُورَاتِ والأَوسَاخِ ، فَلا يَصلُحُ لِسُكنَى مَعرِفَةِ اللهِ وَمَحبَّتِه وِالإِنَابَةِ إِليهِ ، وَالأُنسِ بِه وَالسُّرُورِِ بِقُربِهِ فيه ؛ وَإِنَّمَا يَسكُنُ فِيه أَضدَادُ ذلِك ، فَهذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعضِ فَوائدِ غَضِّ البَصَرِ ، تُطلِعُك عَلى مَا وَراءَهَا ...
)
كلام نفيس للإمام ابن القيم في توبة المبتدع
===================
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
بعد أن عدد أجناساً عشرة من أهل فسق الاعتقاد قال :
((
فالتوبة من هذا الفسوق :
بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ورسوله ، من غير تحريف و لا تعطيل ...
وتوبة هؤلاء الفساق من جهة الاعتقادات الفاسدة :
بمحض أتباع السنة .
ولا يكتفي منهم بذلك أيضاً حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة ؛ إذ التوبة من ذنب بفعل ضده .
ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البيانات والهدى : البيان ؛ لأن ذنبهم لما كان بالكتمان ، كانت توبتهم بالبيان قال تعالى :
(( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) )) [ البقرة : 159-160]
وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم ؛ لأن ذاك كتم الحق ، وهذا كتمه ودعا إلي خلافه ، فكل مبتدع كاتم و لا ينعكس .
وشرط في توبة المنافق :
الإخلاص ، لأن ذنبه الرياء
وتوبة القاذف :
إكذابه نفسه ؛ لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عرض المسلم المحصن ....
(مميز - ثم عدد جملة من الأمور تكون التوبة منها بفعل ضدها ، من ذلك لما تكلم على عظم جرم القول على الله بغير علم ؛ لأنه يتضمن الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال -
فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع .
وأنى بالتوبة منها لمن لا يعلم أنها بدعة ، أو يظنها سنة ؟
فهو يدعو إليها ويحض عليها ؟ فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي يجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة ، وكثرة إطلاعه عليها ودوام البحث عنها والتفتيش عليها ، ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبداً .
فإن السنة بالذات تمحق البدعة ، ولا تقوم لها .
وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت كل من قلبه ضبابة كل بدعة ، وأزالت ظلمة كل ضلالة ؛ إذ لا سلطان للظلمة مع سلطان الشمس ، ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة ؛ إلا المتابعة ، والهجرة إلى رسوله ، بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته (
فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله
) ومن كانت هجرته إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة ، والله المستعان ))
(مميز مدارج السالكين (1/361- وما بعدها))
يقول الإمام ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ في فصل عقده لبيان الحكمة الإلهية في الشرائع في كتابه " مفتاح دار السعادة " :
" وأما الصوم فناهيك به عن عبادة تكفُّ النفس عن شهواتها، وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين، فإن النفس إذا خُلّيت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كفّت شهواتها لله ضيّقت مجاري الشيطان، وصارت قريبة من الله بترك عاداتها وشهواتها ومحبةً له وإيثارا لمرضاته، وتقربا إليه، فيدعُ الصائم أحب الأشياء إليه، وأعظمها لصوقاً بنفسه من الطعام والشراب والجماع من أجل ربه، فهو عبادة، ولا تتصور حقيقتها إلا بترك الشهوة لله.
فالصائم يدع طعامه وشرابه وشهواته من أجل ربه، وهذا معنى كون الصائم له تبارك وتعالى وبهذا فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الإضافة في الحديث : " يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها ، قال الله تعالى : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي " .
حتى أن الصائم ليتصوّر بصورة من لا حاجة له في الدنيا إلا تحصيل رضى الله .
وأيّ حسن يزيد على حسن هذه العبادة التي تكسر الشهوة ،
وتقمع النفس ،
وتحيي القلب وتفرحه ،
وتزهد في الدنيا وشهواتها ،
وترغب فيما عند الله،
وتذكر الأغنياء بشأن المساكين وأحوالهم ، وأنهم قد أخذوا بنصيب من عيشهم، فتعطف قلوبهم عليهم،
ويعلمون ما هم فيه من نعم الله فيزدادوا له شكراً .
وبالجملة فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور، فما استعان احد على تقوى الله، وحفظ حدوده، واجتناب محارمه بمثل الصوم .
فهو شاهد لمن شرعه وأمره به بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه إنما شرعه إحسانا إلى عباده ورحمة بهم ولطفاً بهم ، لا بخلا عليهم برزقه ولا مجرد تكليف وتعذيب خالٍ من الحكمة والمصلحة، بل هو غايةُ الحكمة والرحمة والمصلحة، وإنَّ شرعَ هذه العبادات لهم من تمام نعمته عليهم ورحمته بهم " .