حق الله على العبيد
إنَّ الله جلَّت عظمته، فعظمته أجلُّ من أن يحيط بها عقل، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
وكلُّ ما نشاهد ونسمع في هذا الوجود آياتٌ دالةٌ على عظمة الرب العظيم، وكبريائه، ومجده، وجلاله، وعلوه، وخضوع المخلوقات بأَسْرِها لعزِّه سبحانه، ومهما أثنينا عليه؛ فلا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، والله -سبحانه وتعالى- يسَّر لنا طريق أداء حقه، ولا طريق إلى هذا معرفة هذا الحق إلَّا ما أوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأرسله به إلينا، فلنتعرَّف على ذلك من ميراثه -صلى الله عليه وسلم-، في الحديث الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرويه معاذ بن جبل كما أخرجه البخاري ومسلم، قال معاذ بن جبل: "كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: (يا معاذ، أتدري ما حقُّ الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟)، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذِّب من لا يشرك به شيئًا)، قلت: يا رسول الله، أفلا أبشِّر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا)، وقال الله -تعالى- في الكتاب العزيز: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، ويقول تعالى جدُّه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فمن هذه النصوص الشريفة وأمثالها نعرف أنَّ حق الله على العبيد الذي قَبِلَه منهم ويسَّره لهم هو أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، فيصرفوا جميع أعمالهم التعبُّدية لله وحده وِفْقَ ما شرع رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسَنَّه، وكان هذا حقه؛ لأنَّه سبحانه ذو الوصف الذي استحق به أن يُفْرَد بالعبادة، فما هو هذا الوصف؟
من المعلوم لدى المسلمين أنَّ الله -تعالى- أعلم بنفسه من غيره، فإذا سمَّى نفسه ووصفها؛ فذلك هو الحق الفاصل، وكذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بالله من غيره، فيُصَار إلى ما بيَّنه من أسماء الله وصفاته، ولا يُعْدَل عنه، ولقد وصف الله نفسه في كتابه، فذكر من صفاته: صفات الألوهية والربوبية والملك في أول سورة في المصحف -وهي الفاتحة-، كما ذكرها في آخرة سورة في المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: 1-3]، فهذه ثلاثة أوصاف لربنا -تبارك وتعالى- ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد في آخر ما يَطْرُق سمعك من القرآن؛ حتى يكون على ذهنك مناط استحقاق العبادة، والوصف الذي استحق الله به العبادة في أول ما يَطْرُق سمعك من القرآن وفي آخر ما يَطْرُق سمعك من القرآن.
فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في معرفته، ويعلم أنَّ العليم الخبير لم يجمع بين هذه الأوصاف الثلاثة في أول المصحف وفي آخره إلَّا لِما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفة الله بها وعبادته بها، واعتقادهم أنَّه إلههم الذي لا إله إلَّا هو، وربهم الذي لا رب سواه، ومالكهم المتصرِّف فيهم وهم عبيده، يدبِّرهم كما يشاء، له القدرة والسلطان، والغنى والعلم، يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويعطي ويمنع، لا شريك، ولا لهم من دونه مهرب يهرَبون إليه إذا دَهَمَهم أمر، ولكن إليه المرجع والمصير.
مادة صوتية مفرغة للشيخ: صالح العبود -حفظه الله-