د. عائض القرني
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، ونبي ختم الله به الأنبياء، وإنسان شرَّف الله به الإنسانية، وبشر أكرم الله به البشرية.. لو تمثل العدل في كيان لتمثل في كيانه، ولو صور الطهر في روح لكانت روحه، ولو رسمت الفضيلة في ذات لكانت ذاته، هو بشر، بأبي هو وأمي، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لكن نور النبوة بين جنبيه، وسراج الرسالة يجري بين يديه، وتاج العصمة على رأسه، كلامه صدق، وفعله حق، ومنهجه قويم، وصراطه مستقيم، وخلقه عظيم، وجنابه كريم، يدور الحق معه حيثما دار، وتسير البركة معه حيثما سار، يسبقه القبول إذا توجه. وتنزل معه الرحمة إذا نزل، ويقيم معه الجود إذا أقام، ويرتحل معه البشر إذا ارتحل، هو اليسر كله؛ فدينه يسر، وكتابه يسر، وسنته يسر، وأمره ونهيه يسر؛ لأنه ميسر لليسرى، تقرأ سير العظماء فإذا قرأت سيرته صاروا صغارا، وتطالع أخبار المصلحين والمجددين فإذا طالعت أخباره تحولوا إلى تلاميذ، تعجب بالعباقرة والرواد فإذا عشت مع سنته رأيتهم طلابا صغارا في مدرسته، أثنى عليه الأعداء قبل الأصدقاء، ومدحه البعيد قبل القريب. تسابق في طاعته أبو بكر القرشي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي، تذكر اسمه عند الأتراك فتفيض عيونهم بالدمع، تورد أحاديثه عند الأكراد فتجيش أرواحهم بالشوق، تقص ملحمته على الفرس فتسافر أرواحهم حبا إليه، له في كل مكان أتباع، وفي كل بلد أنصار، وفي كل قطر محبون، يدوي اسمه في الأذان وفي المنائر، ويذكر على المنابر، ويدرس في الدفاتر، يصيح المؤذن في مكة والمدينة والقاهرة وصنعاء ودمشق وبغداد والحمراء والسند وجاكرتا وباريس وواشنطن.. يصيح بقوة: «أشهد أن محمدا رسول الله» كل يوم خمس مرات، يُذكر إذا ذكر الله، عز وجل، يتلو كتاب الله، يدعو إلى الله، يعبد الله، يجاهد في سبيل الله، ينصر شريعة الله، يعيش لله، ويذهب إلى الله، فهو من الله، وإلى الله، وبالله، وعلى الله، وفي الله، يدعو بسيرته أكثر من كلامه، وبخلقه أكثر من خطبه، وبلينه ورفقه أكثر من شدته وبطشه، فتح الدنيا لأمته بكنوزها ودورها وقصورها، ثم ذهب إلى ربه ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعا من شعير عند يهودي، لم يترك دارا ولا قصرا ولا بستانا ولا مالا.. أسر قلوب الناس برحمته، وألَّف بين قلوبهم بلطفه، وآخى بينهم بحكمته، ورفع الجهل عنهم بعلمه، ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم بيسره، بُعث بالحنيفية السمحة، وبالدين الخالص، وبالسنة المطهرة، وبالفطرة الصحيحة، وبالملة الوسط، أتى بدين ودولة، وقلم وسيف، ومحراب ومنبر، أتى لصلاح الروح والبدن، والدنيا والآخرة، والرجل والمرأة، كل صحابي من صحابته يروي حبه على طريقته، وكل من عاشره يصف شعوره بفيض دموعه، وكل من لقيه شهد بعظمته، سواء وافقه أو خالفه.. لم تحفظ له زلة، ولم تنقل عنه كذبة، ولم تعرف له عثرة، ولم تسجل له غلطة، عصم الله قلبه، وزكَّى فؤاده، وطهر روحه، وحفظ سمعه وبصره، ومدح نهجه، وأثنى على خلقه، وأشاد بإمامته، فهو سبحانه الذي اصطفاه للعالمين رسولا، وللأميين معلما، وللناس قدوة، وللجميع أسوة، كلما طالعت أخباره بإيمان وحب آثرته بالمحبة والتقدير والإعزاز على أمك وأبيك، الملايين يودون رؤيته ولو خسروا الأهل والمال، الألوف المؤلفة يفدونه بأرواحهم، عاش بين أصحابه فأخرج منهم الخليفة الراشد، والإمام العادل، والعالم الرباني، والمفسر الحبر، والمفتي الجهبذ والخطيب المصقع، والقائد المقدام، والزاهد الورع، كل صحابي أخذ من عظمته جانبا واحدا فصاروا عظماء التاريخ ونجوم الدهر كما قال البوصيري: فكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم سوف تطالع قبله وبعده غير الأنبياء والرسل أخبار فاتحين وقادة وملوك وأجواد وفلاسفة وحكماء وعلماء وعباقرة، لكنك إذا طالعت سيرته فسوف تنساهم جميعا.. جلس صلى الله عليه وسلم مع الملوك والموالي، والأغنياء والفقراء، والرجل والمرأة، والعربي والعجمي، والعدو والصديق، فقاموا وقد أسرهم وطوَّق أعناقهم بكرمه وتواضعه وبِشره وإقباله.. عاش حياته، صلى الله عليه وسلم، فرعى الغنم ثم قاد الأمم، عاش الفقر والغنى، والصحة والمرض، والنصر والهزيمة، والسلم والحرب، والحضر والسفر، فكان في جميعها عبدا لله وحده، مخبتا طائعا، منيبا صادقا، منصفا عادلا، وصدق الله إذ يقول: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ». وتبارك القائل: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ».