أولى الإسلام عناية خاصة للأسرة وللمحافظة عليها من خلال تحديده للحقوق المترتِّبة على أفرادها تجاه بعضهم البعض ، وذلك كي تُصان الأسرة بصفتها اللبنة الأساسية في بناء المجتمع الذي ينشده الإسلام . ولما كان الوالدان هما حجري الأساس في بناء الأسرة وتنشئة الجيل ، نجد القرآن الكريم يصرح بِعِظَم مكانتهما ، ووجوب الإحسان إليهما . وفيما يأتي بيان لحقوق الوالدين في القرآن الكريم والسنة النبوية : أولاً : حقوق الوالدين في القرآن الكريم : قرن تعالى وجوب التعبد له بوجوب البر بالوالدين في العديد من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) الإسراء : 23 . وقوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) البقرة : 83 . وهكذا نجد أن الله تعالى يعتبر الإحسان إلى الوالدين قضية جوهرية ، فهي من الأهمية بمكان ، بحيث يبرزها - تارة - في عالم الاعتبار بصيغة القضاء : ( وَقَضَى رَبُّكَ ) الإسراء : 23 . ويجسدها - تارة أخرى - في عالم الامتثال بصيغة الميثاق : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) البقرة : 83 . ويعتبر التعدي على حرمتهما حراماً ، وهنا لابُدَّ من التنبيه على أن القرآن الكريم وفي العديد من آياته يؤكد على الأولاد بضرورة الإحسان إلى الآباء ، أما الآباء فلا يؤكد عليهم الاهتمام بأبنائهم إلا نادراً ، وفي حالات غير عادية ، كأن لا يقتلوا أولادهم خشية الإملاق . فيكتفي بالتأكيد على أن الأولاد زينة ومتعة ، وموضع فتنة وإغراء للوالدين ، ولم يذكرهم إلا مقرونين بالمال ، وفي موضع التفاخر . وبنظرة أعمق جعل الإحسان إلى الوالدين المظهر الاجتماعي للعبادة الحقة ، وكل تفكيك بين العبادة ومظهرها الاجتماعي ، بالإساءة إلى الوالدين على وجه الخصوص ، ولو بكلمة ( أُفٍّ ) ، يعني إفسادا للعبادة كما تفسد قطرة الخل العسل . للأمِّ حَق أكبر : منح القرآن الأم حقاً أكبر ، وذلك لما تقدمه من تضحيات أكثر ، فالأم هي التي يقع عليها وحدها عبئ الحمل والوضع والإرضاع ، وما يرافقهما من تضحيات وآلام ، حيث يبقى الطفل في بطنها مدة تسعة أشهر على الأغلب في مرحلة الحمل ، يتغذّى في بطنها من غذائها ، ويقرّ مطمئناً على حساب راحتها وصحتها . ثم تأتي مرحلة الوضع الذي لا يعرف مقدار الألم فيه إلا الأُم ، حيث تكون حياتها - أحياناً - مهدَّدة بالخطر . ويوصي بها على وجه الخصوص : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) لقمان : 14 . وبذلك يؤجج القرآن وجدان الأبناء حتى لا ينسوا أو يتناسوا جهد الآباء ، وخاصة الأم وما قاسته من عناء ، ويصبوا كل اهتمامهم على الزوجات والذرية . ثانياً : حقوق الوالدين في السنَّة النبوية : احتلَّت مسألة الحقوق عموماً وحقوق الوالدين على وجه الخصوص مساحة كبيرة من أحاديث ووصايا النبي الأكرم ( ص) ، فقد ربط النبي ( ص) بين رضا الله تعالى ورضا الوالدين ، حتى يعطي للمسألة بُعدَها العبادي . وأكَّد ( ص) أيضاً بأن عقوق الوالدين هي من أكبر الكبائر ، وربَط بين حب الله ومغفرته وبين حب الوالدين وطاعتهما . فعن الإمام زين العابدين ( إنَّ رَجُلاً جاءَ إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا رسول الله ، ما مِن عَملٍ قبيح إلا قدْ عملتُه ، فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول الله ( صل : ( فهَلْ مِن وَالِدَيكَ أحَدٌ حَي ؟ ) . قال : أبي . فقال ( ص) : ( فاذْهَبْ فَبِرَّه ) . فلما ولَّى قال رسول الله ( ص) : ( لَوْ كَانَتْ أمُّه !! ) ) . وفي التوجيه النبوي : ( مِنْ حَقِّ الوالِدِ عَلَى الوَلَدِ أن يخشع له عند الغضب ، حِرصاً على كرامة الآباء منْ أن تُهدَر ) . وفوق ذلك فقد اعتبر التسبب في شتم الوالدين من خلال شتم الولد للآخرين كبيرة من الكبائر ، تستحق الإدانة والعقاب الأخروي . ثم إن البر بهما لا يقتصر على حياتهما ، فيستطيع الولد المطيع أن يبرَّ بوالديه من خلال تسديد ديونهما ، أو من خلال الدعاء والاستغفار لهما ، وغير ذلك من أعمال البر . ثم إن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد جسَّد هذه التوصيات على مسرح الحياة ، ففي الوقت الذي كان يحثُّ المسلمين على الهجرة ليشكِّل منهم نواة المجتمع التوحيدي الجديد في المدينة ، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون قلائل بالآحاد ، تروي كتب السيرة : أنَّ رجلاً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : جئتُ أبايعك على الهجرة ، وتركتُ أبوي يبكيان . فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( اِرجعْ إلَيهِمَا فَأضحِكْهُمَا كَمَا أبْكَيْتَهُمَا ) . أن الإسلام لم يربط حقوق الوالدين بقضية الدين ، وضرورة كونهما مسلمين ، بل أوجب رِعاية حُقوقهم بمعزَلٍ عن ذلك . فيقول الإمام الرضا : ( بِرّ الوالِدَين وَاجِبٌ وإن كَانَا مُشرِكَين ، ولا طَاعَة لهما في معصية الخالق ) . ولم يكتَفِ الإمام الرضا بِتبْيَان الحُكم الشرعي ، بل كَشَف عن الحكمة من وراء هذا التحريم بقوله : ( حَرَّم الله عُقوق الوَالِدين لمَا فِيه مِنَ الخُروجِ مِن التَّوفِيقِ لِطَاعَةِ الله عَزَّ وجَلَّ ، والتوقيرِ للوَالِدَينِ ، وتَجَنُّب كُفر النِّعمَة ، وإبْطَال الشُّكْرِ ، ومَا يَدعُو مِن ذلكَ إلى قِلَّة النَّسل وانقِطَاعِه ، لِمَا فِي العقُوقِ من قِلَّة توقير الوالدين ، والعرفان بحقهما ، وقطع الأرحام ، والزُّهد من الوالدين في الولد ، وتَرك التربية بِعِلَّة ترك الولد برهُمَا ) . الآثار السلبية الدنيوية لمن عَقَّ والديه : ذكرنا فيما سبق بعض الآثار الأخرويَّة المترتبة على عقوق الوالدين ، ولعَلَّ من أبرزِها التعرُّض لِسَخَطِ الله تعالى ، وعدم قبول الطاعات ، وغير ذلك من آثار . ومن يطَّلع على أحاديث أهل البيت يجد حشْداً من الأحاديث في هذا المجال ، وهنا سوف نقتصر على إبراز الآثار السلبية في دار الدنيا لمن أساء لوالديه ، ويمكننا تصنيفها حسب النقاط الآتية : أولها : التعرّض للفقر والفاقة : يقول الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) في هذا الخصوص : ( أيُّمَا رَجُلٍ دَعَا عَلَى وَالِدِهِ أوْرَثَهُ الفَقر ) . ثانيها : المقابلة بالمثل : إنَّ الأولاد الذين يُسيئون التصرف مع آبائهم سوف يُقابلهم أبناؤهم بالمثل ، ولا يقيمون لهم وزناً عندما يكبُرون . ويؤكِّد هذه الحقيقة ما وَرَد عن الإمام جَعفر الصادق ( عليه السلام ) : ( برُّوا آبَاءكُم يَبرُّكم أبناؤكم ) . وقد أثبتَت التجارب العملية هذه الحقيقة ، وغدَتْ من المسلَّمات عَبْر الأجيال ، فالذي يعقُّ والديه يواجه الحالة نفسها مع أبنائه لا مَحَالة . ثالثها : العقوق يورث الذِّلَّة والمَهانة : ممَّا لا شَكَّ فيه أن الفرد الذي يعقُّ والديه ينظر له المجتمع بِعَين السخط والاستخفاف ، ويصبحُ منبوذاً مذموماً على الصعيد الاجتماعي ، ولا يُذكَر إلاَّ بالعار والشنار مَهما تستَّر خلفَ سواتِر الأعذار . فيقولُ الإمام الهَادي ( عليه السلام ) : ( العقوقُ يعقب القلة ، ويؤدِّي إلى الذِّلَّة ) . ويمكن حَمْل كَلمة القلة في الحديث على إطلاقها ، فتشمل القِلَّة في المال والفقر المعنوي والاجتماعي المتمثل بقِلَّة الأصدقاء والمعارف الذين لا يلقُونَ حبال ودهم إلى من عَقَّ والديه ، وكيف تحصل الثقة بمن قطع حبال الود مع والديه ، وهما من أقرب المقرَّبين إليه ؟ .