يبدو ان العالم بات اليوم أمام اختيارات صعبة، أو كما يقال.. أحلاها مر. فتحقيق بيئة معافاة، بالاعتماد على الطاقة البديلة أو النظيفة، التي يجري الحديث عنها هذه الايام، سيكون مكلفا بشدة، للطبيعة نفسها، كما سيكون على حساب أزمة غلاء الاسعار التي تتفاقم يوما بعد يوم.
فقد تسبب القلق المتزايد من الارتفاع الكبير في أسعار البترول، وما نتج عنه من تغيرات مناخية، في أن يصبح الوقود الحيوي، أو الطاقة المستخرجة من الحبوب الغذائية، في مقدمة ما يسمى بالثورة التقنية الخضراء، التي تعد الوسيلة الجديدة التي يُعبر من خلالها السياسيون وبعض الهيئات عن جديتهم في البحث عن مصادر طاقة بديلة، في ضوء الاحترار العالمي. ولكن هذا الوقود الجديد باهظ الثمن.. لأنه ببساطة شديدة، يهدف الى تحويل الغذاء إلى وقود، وبالتالي فانه يحرض أكثر من 800 مليون شخص يمتلكون سيارات ضد 800 مليون شخص يعانون من الجوع. رفعت الولايات المتحدة زيادة إنتاج الإيثانول، الذي يمثل الطاقة البديلة، بمقدار الخمس خلال العقد الماضي، كما سمحت بزيادة الوقود المتجدد بمقدار خمسة أضعاف خلال العقد القادم.
ويحدث الأمر نفسه في أوروبا، حيث توجد تصاريح بزيادة إنتاج الوقود الحيوي، وتوفر الدول دعما لهذا الأمر. ويعرض تقرير التنمية في العالم 2008 "الزراعة من أجل التنمية" الصادر اخيرا عن البنك الدولي، نموذجا قويا للنقاش الدائر حول تحويل الغذاء إلى وقود: هناك حاجة إلى 240 كيلوغراما من الذرة ـ أي ما يكفي لإطعام شخص واحد لمدة عام كامل ـ من أجل إنتاج 26 غالونا، أو 100 لتر من الإيثانول لملء خزان سيارة رياضية حديثة، وفي هذ المجال اشار علماء اميركيون الى ان نبتة واحدة لاستخراج مادة الايثانول تحتاج سنويا لنحو 400 مليون غالون من المياه من اجل زراعتها.
وقد زادت الاستثمارات العالمية في مجال الوقود الحيوي من 5 مليارات دولار عام 1995 إلى 38 مليار دولار عام 2005، ومن المتوقع أن تصل قيمة الاستثمارات إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2010، ويرجع الفضل في هذا إلى بعض المستثمرين مثل ريتشارد برانسون وجورج سوروس وجنرال إليكتريك وبريتش بتروليم وفورد وشيل وكارجيل وكارلايل غروب.
لقد أصبح الوقود الحيوي أحد أبرز العناوين في الوقت الحالي، وليس ثمة اعتراض على الاستثمارات في هذا المجال، ولكن هناك العديد من الدراسات الحديثة التي تقول إنه في الوقت الذي يزدهر فيه الاستثمار في هذا المجال، فإن هذا يعود بالسلب على الاحتباس العالمي، حيث أن هذه الاستثمارات تتسبب في زيادة معدل الاحترار، مما يعني تعريض الكرة الأرضية للمخاطر تحت مسمى حمايتها.
وبحسب العديد من الدراسات العلمية في هذا المجال، فقد تبين أن الإيثانول المستخرج من الذرة له تأثير كارثي على البيئة، وحتى سليلوز الإيثانول المصنوع من بعض النباتات العشبية، الذي روج له العديد من الناشطين في مجال الشؤون البيئية، بالإضافة إلى الرئيس الأميركي جورج بوش كوقود المستقبل، فقد تبين أنه يشكل ضررا على البيئة أكثر من الغازولين المشتق من البترول. وفي الوقت نفسه، فإن استخدام الحبوب وبعض البذور في إنتاج الوقود الحيوي بدلا من استخدامها كطعام سيكون له أثر كبير في زيادة أسعار السلع الغذائية في الأسواق العالمية، مما يعد تهديدا للجوعى في العالم، فالحبوب التي تستخدم في ملء خزان وقود إحدى سيارات "اس يو في" الرياضية بالإيثانول، تكفي لتوفير الطعام لشخص واحد لمدة عام كامل.
وأعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة عن حاجته لـ500 مليون دولار إضافية لاطعام البشر، وأفاد بأن الزيادة في أسعار السلع الغذائية تعد أزمة طارئة. وقد تسببت الزيادة الكبيرة في أسعار الذرة في أعمال شغب في مدينة مكسيكو سيتي، ومدن آسيوية وعربية أخرى، كما أدت الزيادة الباهظة في أسعار الدقيق إلى عدم استقرار في باكستان والعديد من الدول الاخرى. وقد أدى الوقود الحيوي إلى تقليل الاعتماد بعض الشيء على واردات البترول، وكان سببا في خلق فرص عمل في المناطق الريفية وإثراء لبعض المزارعين ورواج الأنشطة التجارية المرتبطة بالزراعة، ولكن المشكلة الأساسية المرتبطة بمعظم أنواع الوقود الحيوي تعد بسيطة، إذا أخذنا في الاعتبار أن الباحثين لم يولوا هذه المشكلة اهتماما كبيرا حتى الآن. وهذه المشكلة هي أن استخدام الأراضي لإنبات الوقود سيؤدي إلى تدمير الغابات والمراعي التي تستهلك كميات كبيرة من الكربون.
وقد تكررت هذه الظاهرة التي تنذر بالخطر في العديد من المناطق في مختلف أنحاء العالم. فقد قامت إندونيسيا بجرف وحرق العديد من المناطق البرية من أجل إنتاج أشجار زيت النخيل التي تستخدم في إنتاج الديزل الحيوي، وحسب تقرير لمنظمة "ويتلاند إنترناشونال" فقد ارتفع ترتيب إندونيسيا في الدول التي تصدر أعلى نسبة للكربون من المركز الحادي والعشرين إلى المركز الثالث. ومع قيام ماليزيا بتحويل العديد من الغابات إلى مزارع لإنتاج زيت النخيل، فإنها أصبحت تعاني من انحسار مساحات الأراضي غير المستصلحة. وجدير بالذكر أن معظم الضرر الذي يتسبب فيه الوقود الحيوي سيكون غير مباشر وأقل وضوحا.
وفي البرازيل، على سبيل المثال، نجد تعديات على نهر الأمازون لزراعة قصب السكر الذي يوفر الوقود لمعظم السيارات هناك. وفي الولايات المتحدة نجد أن المزارعين الأميركيين يبيعون خمس الذرة التي يزرعونها لتستخدم في إنتاج الإيثانول، ولذا فقد اتجه مزارعو فول الصويا الأميركيون إلى زراعة الذرة، كما عمد مزارعو فول الصويا في البرازيل إلى التوسع في زراعة الفول على حساب مراعي الماشية وانتقل الرعاة إلى غابات الأمازون.
وفي هذا السياق قالت نيكي ستوكس، مسؤولة الاعلام في منظمة "أصدقاء الارض": ان "الوقود الحيوي له تأثير بيئي واجتماعي كبير في العالم"، مبينة ان "الهدف المحدد بنسبة 10 في المائة من الوقود الحيوي لإدخاله في وقود السيارات غير واقعي ولا يمكن تحقيقه". وأضافت القول: "ان قضية الوقود الحيوي تلعب دورا في زيادة اسعار الغذاء على مستوى العالم، كما انها تضر بالبيئة، لذا فاننا في المنظمة نطالب بالمزيد من البحوث والتجارب والدراسات من اجل ايجاد حلول مستدامة وقابلة للتطبيق".
يقول عالم الأحياء ساندرو مينيزيز: "لقد ارتفع سعر فول الصويا، وقلت مساحة الغابات". ومن الملاحظ أن المعارضة المتزايدة للوقود الحيوي سببها الخوف من نتائج غير مقصودة. وقد يكون هذا واضحا إذا ما علمنا أنه عندما يزيد الطلب على المحاصيل الزراعية، سوف ترتفع الأسعار وستتمدد المزارع باتجاه الغابات الطبيعية. أضف إلى ذلك، أنه عندما يتسع نطاق استخدام الوقود الحيوي، سيكون على مؤيدي استخدام الوقود الحيوي أن يعيدوا النظر في مواقفهم. يقول ناثانل غرين، من مركز حماية الموارد الطبيعية: "ننظر إلى الأرقام بطريقة جديدة". وكان غرين قد أصدر تقريرا عام 2004 ساعد في رفع مستوى الدعم للوقود الحيوي من جانب المؤسسات المهتمة بالشؤون البيئية. وفي الوقت الحالي، يحذر العديد من الخبراء الذين طالما تحدثوا عن فوائد الوقود الحيوي من التكلفة البيئية لهذا النوع من الوقود ومخاطر إزالة عدد من الغابات. يقول البروفيسور ألكسندر فاريل، بجامعة كاليفورنيا: "يبدو أن الوضع يشتمل على العديد من التحديات، أكثر مما كان يتخيل الكثير منا". بيد أن هؤلاء الخبراء لم يتخلوا عن الوقود الحيوي، فهم يدعون إلى أنواع أفضل من الوقود لا تتسبب في انبعاث كميات هائلة من الكربون بسبب إزالة الكثير من الغابات..
ويقول روبرت واطسون، العالم البارز بوزارة البيئة البريطانية، إن السماح باستخدام الوقود الحيوي على نطاق أوسع ـ كما يقترح الاتحاد الأوروبي ـ سيفتقر فعلا إلى الحكمة، إذا تسبب في زيادة الغازات المنبعثة من البيوت الزجاجية. ولكن لماذا يستمر ضخ الكثير من الأموال في مثل هذا المشروع المضلل؟ على غرار العلماء والمهتمين بالبيئة، فإن الكثير من رجال السياسة يعتقدون بحق أن الوقود الحيوي قد يساعد على مكافحة ظاهرة الاحترار العالمي. فمن البديهي أن السيارات تتسبب في زيادة غاز الكربون بغض النظر عن نوع الوقود المستخدم. ولكن عملية زرع النباتات التي يتم تحويلها إلى وقود تمتص قدراً من هذا الكربون من الجو. وعلى مدى سنوات، ظل السؤال الرئيس هو ما إذا كان هذا النقص الناتج عن تخفيض نسبة الكربون أكثر أهمية من "دورة حياة" الكربون المنبعث من الزراعة، حيث يتم تحويل المحاصيل إلى وقود ونقل الوقود إلى الأسواق.
وتوصل الباحثون في نهاية الأمر إلى أن الوقود الحيوي أفضل للبيئة من البنزين. وكانت التحسينات بمثابة حوالي 20% للإيثانول المنتج من الذرة، وذلك بسبب انبعاث الكثير من الكربون من الجرارات والأسمدة التي يدخل البترول في تكوينها وكذلك انبعاثه من معامل التقطير. واقتربت أرباح أنواع أخرى من الوقود الأكثر فعالية من 90%، وكان المؤيدون على يقين من أن التقنية الحديثة قد تزيد تدريجياً من المنافع. ولم يكن هناك إلا خطأ واحد في عملية الحساب.
فكل الدراسات أيدت استخراج الوقود من المحاصيل الزراعية من أجل تخفيض نسبة الكربون في الجو، إلا أن أحداً لم يتأكد من إمكانية استعادة خصوبة التربة التي امتصت الكثير والكثير من الكربون. وبدا الأمر كما لو أن عالم العلوم قد افترض أن الوقود الحيوي سوف يتم إنتاجه في باحات وقوف السيارات. وأظهرت عملية إزالة الغابات التي تمت في إندونيسيا أن ذلك غير صحيح. ويتضح أن الخسائر الناتجة عن عملية قطع الغابات تفوق المزايا الناتجة عن استخدام أنواع أكثر نظافة من الوقود. وتوصلت دراسة أعدها ديفيد تلمان، وهو عالم بيئة في جامعة مينسوتا، إلى أن الأمر سوف يتطلب أكثر من 400 سنة من استخدام الديزيل الحيوي للتخلص من آثار الكربون المنبعث من خلال تطهير الأراضي من النباتات المتحللة لكي تتم زراعتها والحصول على زيت النخيل. وكذلك فإن تطهير الأراضي المكسوة بالعشب من أجل زراعة الذرة التي يتم تحويلها إلى إيثانول سيستغرق 93 عاماً من أجل التخلص من آثار الكربون.
والنتيجة هي أن الوقود الحيوي يزيد من الطلب على المحاصيل، الأمر الذي يرفع الأسعار ويزيد من التوسع الزراعي الذي يلتهم الغابات. وقد توصلت دراسة بحثية إلى أنه بشكل عام، فإنه بعد استخراج الإيثانول من الذرة سوف يستغرق الأمر حوالي 167 عاماً لكي يتم التخلص من آثار الكربون، وذلك بسبب عملية إزالة الغابات الناتجة عن زراعة الذرة. ولن يتم استبدال كل حبة ذرة يتم تحويلها إلى وقود. وترفع عمليات تحويل المحاصيل إلى وقود من أسعار الغذاء، الأمر الذي سوف يتسبب في تقليل كميات الطعام الذي يتناوله الفقراء. ولهذا السبب قام خبير تغذية في الأمم المتحدة أخيراً بوصف الوقود المستخرج من المحاصيل الزراعية بأنه "جريمة ضد البشرية".
ويقول ليستر براون من معهد إيرث بوليسي إنستيتيوت إن الوقود الحيوي يحرض 800 مليون شخص يمتلكون سيارات ضد 800 مليون شخص يعانون من الجوع. ومنذ أربع سنوات، تنبأ باحثان من جامعة مينسوتا بأن تنخفض أعداد الذين يعانون من الجوع في العالم إلى 625 مليون شخص بحلول عام 2025. وفي العام الماضي، وبعد إجراء تعديلات من أجل حساب التأثيرات التضخمية للوقود الحيوي، رفع الباحثان تقديراتهما إلى 1.2 مليار شخص. ومن اجل حل الاشكالية عادت ستوكس للقول لـ"الشرق الاوسط" انه "يجب التخلي عن النسبة المئوية المرسومة للوقود الحيوي في اوروبا بشكل كامل لانها جزء كبير من المشكلة"، مؤكدة ضرورة ايجاد حلول وتجارب اكثر واقعية ومستدامة تراعي الجوانب البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
ما هو الإيثانول؟ يتم إنتاج الإيثانول (ويسمى أيضاً بكحول الحبوب) من المحاصيل التي يدخل فيها النشا أو السكر كمكون أساسي. والذرة هي أكثر المحاصيل استخداماً في إنتاج الإيثانول في الولايات المتحدة، في الوقت الذي تفضل فيه دول أميركا اللاتينية استخدام قصب السكر لإنتاجه. ويحتوي الإيثانول على ثلثي حجم الطاقة التي يحتوي عليها البنزين. ولهذا السبب (بالإضافة إلى تكلفته المرتفعة) تتم إضافة الإيثانول إلى البنزين. ويحتوي واحد من كل ثمانية غالونات من البنزين الذي يباع في الولايات المتحدة، على حوالي 8% إلى 10% من الإيثانول. ويمكن لكل السيارات ذات المحركات الترددية استخدام مزيج الإيثانول بكميات صغيرة (تصل إلى 20%، أو ما يعني 20 إي)، ومع تغييرات بسيطة، يمكن لهذه السيارات أن تستخدم مزيج إيثانول بنسب مرتفعة تصل إلى 85% (85 إي). ومن الممكن أيضاً تشغيل المحركات بالإيثانول الصافي.